لا شك ان الكثيرين من الذين علقوا الامال على حركات الربيع العربي قد اصابهم شئ من الاحباط وساورهم قلق على حالة الانفلات التي انتجتها التغيرات في جسد السلطة في هذا القطر او ذاك.
المؤكد ان كل عاصمة عربية قد شهدت تحولات سياسية واجتماعية بدرجات متفاوتة لكن جميعها اشتركت في حالة من التسيب الامني والركود الاقتصادي، وهما حالتان ستتركان اثرا على سرعة عودة الامور الى طبيعتها واحداث التحول الايجابي المنتظر.
المتابعة الدقيقة المحايدة للاحداث تقود الى نتيجة واحدة في الحالتين اليمنية والليبية (والسورية حاليا) ومختلفة في الحالتين المصرية والتونسية..
في الحالة الاولى فإن الفئة التي امسكت بتلابيب الحكم عمدت الى تفكيك كل اجهزة الدولة ودوائرها واعادة صياغتها بتراتيبة لا علاقة لها ببنى الدولة ومأسستها، ثم اتجهت الى استبعاد كل كفاءة ان لم تكن مرتبطة بالولاء والثقة المطلقة. بعد ذلك انطلقت الى الامساك عبر الدائرة العائلية اولا ثم المناطقية ثم الجهوية، بكل ما يرتبط بالأمن والاقتصاد في ظل حلقات ضيقة… صحيح ان هذه الانظمة كان بها وزارات ومؤسسات لكن القابعين على رأسها كانوا يدركون ان بقاءهم مرتبط بتحقيق رغبات الحكام الفعليين، واذا حدث اعتراض او تراجع عن تحقيق الرغبات الخاصة فإن المصير هو الاستبعاد في احسن الاحوال.
كانت النتيجة الحتمية للتغييرات التي حدثت في هاتين العاصمتين (وما يحدث في سوريا حاليا) حالة من الفوضى والتيه.. مع وجوب الاشارة الى ان ليبيا قد فاجأتني بالاسلوب الذي تدار فيه الامور رغم كل المخلفات التي تركها القذافي وكلها سلبية، فقد استطاع الليبيون ان ينجزوا انتخابات آمنة، ثم انتقلوا الى عملية جدل سياسي ايجابي لابد انه سيحقق لهم استقرارا في مدى اسرع من اليمن ويقينا من سوريا..
في اليمن اختلفت الحالة فالتغيير الذي سعى اليه الشباب لم يحدث الا في جزء من قمة السلطة اما بقية المكونات فمازال جزء كبير منها يدين بالولاء للنظام السابق كما ان جزءا كبيرا من القوات المسلحة مازالت تحت سيطرته، وكذلك تنظيم المؤتمر الشعبي العام الذي كان جزءا من تكوينات الدولة يعاني من شلل بسبب ازدواجية الرأس فعلى رأسه الرئيس السابق علي عبدالله صالح وأمينه العام هو الرئيس الحالي عبدربه منصور هادي.
لم يلتق الرجلان منذ 21 فبراير 2012 وبعدها بدأ الرئيس السابق متعمدا الظهور الاعلامي واجراء اللقاءات الحزبية وخصص لنفسه قناة تليفزيونية (اليمن اليوم) وهو ما يجعل ادارة البلاد مزدوجة وهو ما يعقد كل ما يفكر به الرئيس هادي الذي وقع بين مطرقة الرئاسة التي وصل اليها بالتوافق السياسي وبين التنظيم الذي انتمى اليه بحكم الموقع الذي كان يشغله منذ حرب صيف 94.
هذا الواقع المعقد تنسحب آثاره الى كل مساعي الرئيس هادي في السيطرة على الاوضاع وإعادة ترتيب مؤسسات الدولة.. وهو إن كان قد نجح في نزع الغام عدة من الطريق الذي دمرته سنوات الحكم الطويلة الا أنه مازال بحاجة الى وقت طويل لتمهيده وإعادة الهدوء النفسي الى اليمنيين.
اشك في ان الفترة الانتقالية التي تنتهي في فبراير 2014 ستكون كافية لإيجاد هذه المنظومة كما انه من غير المنتظر ان يقبل الرئيس هادي فكرة التمديد لخطورة الامر وعدم رغبته في اعادة انتاج مسرحيات سلفه..
من هنا يبدو الحوار الوطني المنتظر وسيلة للبدء في اعادة صياغة الدستور ومنظومة الدولة الحديثة واستعادة ثقة اليمنيين بحاضرهم مستقبلهم.. لكن كل هذه الاحلام مرتبطة بإيجاد مخرج للقضية الجنوبية التي بدأت بمطالب حقوقية مشروعة وارتفع سقفها حتى بلغت حد المطالبة بالانفصال..
هناك ايضا ما صار متعارف عليه بأنه القضية الحوثية او قضية صعدة والتي بدأت هي الأخرى بمطالبات الحفاظ وعدم الاعتداء على المذهب الزيدي في المناطق الشمالية من اليمن وانتهت بأن اضحت تحمل شعارات سياسية لا علاقة لها بالواقع اليمني ولم يعد سرا امتداد الحركة الخارجي ورغبتها في السيطرة الكاملة اداريا ومذهبيا على مجمل المناطق الشمالية وبلغ الامر ان صارت تسمي المسئولين في الدوائر الحكومية او على الاقل تفرضهم عليها، ومن السخرية ان الميزانية العامة للدولة تتعامل مع صعدة (مركز الحركة الحوثية) كأنها مازالت تابعة لها.
بالطبع فإن الحالة السورية لا تحتاج الى حديث فالمشاهد والاخبار التي يتبعها الكل لا تحتاج الى محلل ولا منجم.
الحالتان المصرية والتونسية تختلفان جذريا عن الحالات الثلاث السابقة.. مصر وتونس مجتمعان مدنيان لا وجود للتركيبة القبلية فيهما، ويدين المواطنون فيهما للدولة بمفهومها الواسع ولا يحتكمان الى اعراف قبلية او مواثيق غير القانون والدستور..
رغم كل المحاولات التي بذلها الرئيسان السابقان حسني مبارك وزين العابدين بن علي، إلا انهما اخفقا في انتزاع فكرة الدولة من اذهان المواطنين.
عمد نظاما مبارك وبن علي الى بسط سطوة اجهزة الامن وسيطرتها على اذهان المصريين والتونسيين وإن كان الامر قد نجح ولفترة طويلة إلا ان الاثنين غابا عنهما ادراك ان اجهزة الامن لا تعي ولا تدرك سريعا المتغيرات التي تحدث في المزاج العام وتأثير انتقال المعلومات السريع، بل انها تكتفي بإثارة الرعب في نفوس المواطنين دون متابعة دقيقة لما يجري تحت السطح.. فالمياه المتدفقة يمكن صدها لزمن ولكنها بفعل الضغط المتراكم تحطم اعتى السدود.
اخفق مبارك وافشل بن علي في تجاوز الصدأ الذي تراكم على جسد نظاميهما فأستسلما بعد مقاومة لم تُفلح في كبح جماح غضب المواطنين.. فر بن علي واستسلم مبارك لعناده فأنتهى به الأمر في تلك الصورة التراجيدية التي أفرحت ملايين من المواطنين المصريين والعرب، وأحزنت من رأى في تلك النهاية مشهدا ما كان يتمناه لإنسان أي إنسان..
ما يحدث في البلدين سينتهي حتما الى استعادة الهدوء والتوازن لأنهما يحملان في أعماقهما مفهوم الدولة المدنية رغم المحاولات التي يسعى اليها مناصرو الاسلام السياسي في الانفراد بزمام الامور الا انهما عاجزان عن الامساك بزمام المبادرة المستقبلية..
مصر ستخرج من محنتها التي اسس لها مبارك ومن احاطوا به، لا اخشى عليها ففيها مجتمع مدني حي ومقاوم ومؤسسات راسخة منذ قرون طويلة في اذهان المواطنين.
تونس يمتلك مواطنوها حس الانتماء الى الدولة وقوانينها لا الانتماء الى القبيلة واعرافها، وبها مؤسسات ارسى دعائمها الراحل العظيم الحبيب بورقيبة وظلت ثابتة رغم الافساد المتعمد الذي مارسه بن علي واجهزته الامنية.
الخوف كل الخوف هو ما يحدث في المجتمعات التي تفزعها الدعوة الى الدولة الحديثة والدعوة الى النهوض بالدولة ومؤسساتها بعيدا عن اعراف القبيلة التي لا تصلح في الامور المرتبطة بتسيير الدولة ومؤسساتها.
خاص لـ ( الهتلان بوست )