كاتب ومحلل سياسي- لندن
أكثر ما يصدم في هذه المرحلة العربية أن مفاهيم الإلغاء والإقصاء والإبادة انزلقت من اللاوعي إلى الوعي، ومن المظنون إلى المصرَّح به بصيغة وقحة أو بأخرى. وعدا ما يُسمع مباشرة أو تأتي به الفضائيات أو ما يُكتب، تزخر صفحات ما يسمى «التواصل الاجتماعي»، خصوصاً في البلدان المصطرعة، بـ«تغريدات» أقرب إلى زئير الوحوش المفترسة، و«بوستات» كأنها دعوة إلى إعدامات جماعية، حتى أصبح ذلك «الإعلام الجديد» الذي عزي إليه الفضل في انتفاضات التغيير، إعلام «التقاتل الاجتماعي».
أصبحت التطبيقات العربية لهذا «التواصل – التقاتل» محط اهتمام الدارسين المنكبِّين على معاينة التصدعات بين فئات المجتمع، وقياس منسوب الحقد والكراهية، ورصد الانحدار المريع في لغة التخاطب، واستكناه المكتوم والمظنون في الذاكرات منذ عشرات ومئات السنين عن مظالم وانكسارات أو خرافات تاريخية، وبالتالي خروجه إلى العلن في ساحات الانتهاك العلني المتبادل للخصوصيات والمقدسات موثقاً بالصورة وبأصوات همجية القرن الحادي والعشرين. لكن المسألة ليست إعلاماً فحسب، إنها واقع معاش تجهر فيه فئات اجتماعية أنها لم تعد تستطيع التعايش مع فئات أخرى، وتتراشق باتهامات أهونها ارتكاب «أخطاء» في حق الآخر، وأفظعها عدم ممانعة زاول الآخر واختفائه بأي طريقة وأي ثمن.
«اطردوهم، طاردوهم، اقتلوهم، اذبحوهم، دمروا بيوتهم…»، هكذا يعبر أبناء البلد (ولا نقول الوطن) الواحد عن تمنياتهم لمن يفترض أنهم الشركاء في العيش. بل إن فنانة سورية لم تتورع عن حضَّ رئيس النظام على محق الخصوم بالسلاح الكيماوي. ليست وحدها التي فقدت رشدها. كثيرون يشاركونها الجنون في الفقرة ذاتها على «فيسبوك» سطر يبكي «الشهداء» بحرقة ويترحم عليهم، وفي السطر التالي شماتة وتشفٍ بـ«قتلى» الطرف الآخر.
في ليبيا وسوريا شهد الأطفال واختزنوا مشاهد وأحداث وابتذالات سترافق كل حياتهم، وتعرضت نساء لأقسى المهانات والتعديات المتعمدة والمنهجية. في الأسكندرية هذه السنة، وقبلها في غزة عام 2007، رمي أشخاص من أماكن عالية لتأكيد موتهم. في قلب القاهرة، قبل أسابيع، كانت المقتلة متوقعة في عملية إنهاء الاعتصامات وانقسم المجتمع في مصر كما في العالم العربي بين الحزن على الضحايا وقبول الحصيلة الدموية بمثابة الثمن الذي لابد منه.
تتعدد المآسي وكأنها مجرد مشاهد تمر على الشاشات ثم تختفي ليلفُّها النسيان أو لتحيل حدث اليوم أولوية على حدث الأمس. لكن حال التباعد والتحاقد التي تتراكم تطرح التساؤل المخيف: ماذا عن الغد، كيف سيعالج كل هذا الألم، كيف سيُمحى؟ في لجّة المواجهة، لا وقت لأحد كي يفكر في الغد، بل لا أحد يجرؤ على الإفصاح عن أي تصور لما سيكون عليه الغد في ليبيا، مثلاً، أو في اليمن، أو حتى في مصر وتونس ولبنان.
مساء يوم العشرين من أغسطس كان مئات الأطفال في غوطة دمشق لا يزالون يحلمون برحابة الحياة ومفاجآت المستقبل، وإذا بهم يقضون صبيحة اليوم التالي خنقاً بغاز السارين. لم يعرفوا لماذا قتلوا، ولن يفهموا كيف أن العالم لم يرَ في الجريمة سوى أن ثمة سلاحاً ما كان يجب استخدامه فلا يعاقب المجرم إلا بانتزاع السلاح من يده.
كلما أبدى المجتمع الدولي عدم اكتراث بالمآسي والمعاناة كلما ساهم في تعميق الانقسامات وتأجيج أنواع التطرف شتى. وفي مختلف الحالات تأكد بقوة عجز الأفرقاء عن استباق الفظاعات بمبادرات تبقى الغلبة فيها للسياسة على العنف. لم يتنبّه أحد إلى أن مجتمعاتنا كانت مريضة بسرطانات في حال متقدمة، حتى كأن الانتفاضات والثورات حصلت بإنذار يطلقه الجسم/المجتمع لأنه يرفض لا بل لا يستطيع الموت. كان ولا يزال يحتاج إلى تغيير الدم وتنظيف الأوعية وتنشيط القلب، غير أنه في اللحظة الحرجة والحاسمة لم يحظَ بالجراحين الماهرين بل بمشعوذين توقفت عقولهم عن العمل في عصور غابرة، فأضاعوا الوقت وزادوا الداء اعتمالاً.
ما الذي حصل لهذه القوى كي تعتقد أنها وحدها مؤتمنة على الدين والعقول والقلوب، عن الحاضر والمستقبل، حتى أودت بها شهوة الحكم ولوثة التسلط. ما الذي جعلها تبني وجودها على زوال الآخر، ومن أين جاءوا بغطرسة الجهل هذه ليفسدوا لحظة الوعي في مجتمعاتهم. بل من أين جاء ذلك الديكتاتور الكيماوي بفائض الوحشية هذا ليمحض نفسه القوة على منح الحق في الحياة أو حجبه. لا شك أن مجتمعاتنا تمر بمعركة وجود، أما معركة التعايش وقبول الآخر فمؤجلة.
المصدر: صحيفة الاتحاد