كاتب سعودي
كنت في شبابي كثيراً ما أقف متأملاً عند مقبرة ملاصقة لمزرعةٍ لجدي، قيل إن أكثر من فيها هم آباؤنا وأجدادنا من الذين سُفكت دماؤهم فيها على أيدي جنود إبراهيم باشا أثناء حصار الدرعية وبعد سقوطها وتدميرها. فلطالما تساءلت: لماذا سقطت الدولة السعودية الأولى وقد كانت على ما كانت عليه من العقيدة الصافية، وتحكيم الشريعة، وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحداثة العهد؟ فقد كانت الدولة السعودية الأولى عند سقوطها في أوج شبابها وقوتها، لم يدركها بعد هرم الدول والممالك. فكيف تسقط دولة فتية شابة قد تعهد الله بنصرها {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ}. دولة قد وفت بعهد الله عندما مُكنت في الأرض، {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ}. فقيل لي: إنهم قد بدلوا وحرفوا في الالتزام بدعوة الشيخ، وتهاونوا في العبادات، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأسرفوا على أنفسهم في شهوات الدنيا وملذاتها. وأنا من أعرف الناس الأحياء اليوم بهم، فلطالما عشت معهم فكراً وإحساساً، عشقاً وهياماً أستشعره وأنا أقرأ رسائلهم وسيرتهم. فقد كانوا رحمهم الله أصدق الدول تديناً وأصفاهم عقيدة وأخلصهم تورعاً وطاعة. وما كان ليكون فيهم مسترزق بدين الله، فقد كان أمراؤها هم فقهاؤها وعلماؤها، يُدرسون الناس في المساجد ويأمونهم في صلواتهم. ومن قرأ لهم فكأنما يقرأ لابن تيمية في صدق عقيدته وقوة إيمانه وغزارة علمه. فلمعرفتي هذه، لم أقتنع بهذه التبريرات الباطلة. ولكني لجأت إلى ما رُبينا عليه من تخدير العقول، فبسطت الأمر على نفسي، فقلت لها، إنما هي فتن ليمحص الله الذين آمنوا. وإنما هي أيام يداولها الله بين الناس. فقد كانت الأولى لمحمد وصحبه في بدر، والثانية كانت أحداً، ثم أتى الله بالفتح لعباده وأوليائه.
وهكذا فعلت -مرة أخرى- في تبسيط هذا السؤال العميق عند ما سقطت الطالبان، وقد كنت مراهناً على انتصارها، تحقيقاً لوعد الله بنصر عباده الذين نصروه ووفوا بعهده عند تمكينهم في الأرض فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر. (وقد كنت آنذاك خلال الهجوم الأمريكي على أفغانستان في أمريكا، وأثناء حالة الغليان الأمريكي الشعبي، أدعو تصريحاً وعلانية بنصر الطالبان والملا عمر في قنوتي التروايح والتهجد، وأنا آمّ المسلمين في أكبر جامعين بمنطقة بوسطن). فما وعيت -بعد أن هُزمت الطالبان- إلا والتُهم بالشرك والانحراف والضلال تتقاذف على الطالبان من السلفيين أنفسهم قبل غيرهم. وهكذا، كلما سقطت دولة أو جماعة إسلامية أو فشلت تبرأ منها الإسلاميون، وقذفوها بالبدع والشرك والفساد. فأدركت حينها، بأننا نُهندس لعقولنا حواجز وجدران متنوعة ومتعددة لتمنعنا من التفكير بحقائق الأمور وأصولها، ولتحجب عنا الفهم الصحيح لمعاني النصوص الشرعية.
فعدت للتاريخ الإسلامي أتأمله وأفكر فيه. فلم أجد -بمفاهيمنا التي نفهمها اليوم عن الدولة الإسلامية- دولة تُوصف بأنها من الدول التي نصرت الله وحق لها وعد التمكين، إلا وقد سقطت سريعاً وآل التمكين لغيرهم. فهذه دولة الخلافة الراشدة لم تعمر طويلاً، والصحيح أن نصرها وأمنها ابتدأ حقيقة مع الفاروق وانتهى معه رضي الله عنه. ولم يُنصر علي والحسين وسفكت دماؤهم، وهم من هم؟ وهذه مدينة الرسول، تستبيحها دمشقٌ وتسفك دماء أبناء الصحابة وتستحل أموالهم وأعراضهم. افتُستباح المدينة ولا فجور فيها، وتُمكن دمشق وهي تقتل الصالحين وتجاهر بالخمور والفجور. بل وحتى من ظهر ورعه وتقاه من حكام المسلمين انتهى -سريعاً- ميتاً أو قتيلاً كعمر بن عبدالعزيز، وقد قيل إنه قتل مسموماً. وكم من حركات ودويلات إسلامية قصها علينا التاريخ حاكياً عن صدقها وإخلاصها، ما أن تنهض إلا وتنتهي سريعاً بين قتيل وأسير وشريد.
نحن المسلمون عامة، لم نُعلم تاريخنا الصحيح. ما درسناه هو تاريخ مُهندس ومُحرف ومبتور. فأصبحت تصرفاتنا مع الحاضر وتنبؤاتنا للمستقبل خاطئة لأن أساسها خاطئ. وأصبح فهمنا للنصوص الشرعية فهما خاطئاً مقلوباً نسنده بأساطير وأقاصيص الكُهان.
فعدت أبحث في تاريخنا من جديد، أحاول تصفيته، وأستخرج منه قواعد عامة من تجربة أمة لأربعة عشر قرناً. فوجدت أن أعظم من نُصروا ومُكن لهم في الأرض لقرون طويلة من الدول والخلفاء والأمراء هم أكثرهم بطشاً بدماء المسلمين وفجوراً في دين الله. وهؤلاء هم من كانت مدنهم وعواصمهم مباسط للنُطع ومنارات تعليق الرؤوس. وكانت مقصد الفجور والعهور، كما كانت مقصد العلوم والحضارة. فهذا مروان بن محمد وأبناؤه وأحفاده. وهذا أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور والرشيد والمأمون والمعتصم. فلا يخفى على أدنى مُطلع، مدى انغماسهم في الشهوات والخمور والفجور ومدى بطشهم الدموي بالمسلمين. وهذه دولة بني عثمان، دولة البدع والشرك منذ نشأتها، تُفتح لها القسطنطينية وتُمكن في الأرض وهي دولة الشركيات والخمور والحريم والفجور.
وهكذا، فلم أجد (على الفهم الذي نفهمه والذي يردده المسلمون اليوم من وعد الله بالنصر والتمكين) في تاريخنا الإسلامي من أحدٍ نصر الله ووفى بعهده -بمفهومنا المشهور- إلا وزال عنه تمكينه ونصره سريعاً، هذا إن مُكّن أصلاً. فعرفت حينها، أن وعد الله حق وصدق ولكن ليس على فهمنا الذي فهمناه. فنصوص النصر والتمكين موجهة للأمة الإسلامية عموماً وليس للدول والأفراد. وقد نصرنا الله وصدقنا وعده ومكننا في الأرض لقرون طويلة كأمة محمد النبي الأمي عليه أفضل الصلاة والتسليم. حتى بدلنا -كأمة ليس كدولة أو أفراد- وظلمنا أنفسنا، باسترزاقنا بديننا وجعله رهبانية، ليتسلط بعضنا على بعض باسم الدين والشرع، ونضع الأغلال والأصار على العباد والبلاد باسم دين الله، فتخلف عنا وعد الله بالنصر والتمكين. والله قد يؤجل ظلم الإنسان لنفسه أو لأخيه الإنسان تحت مسمى السلطة والجبروت الإنساني. ولكن لعله لا يرضى أن يُظلم الناس باسمه سبحانه، ويُتسلط عليهم بدينه الذي ارتضى لهم خاتمة للناس حتى يلقونه يوم الحشر. فالله لا يرضى أن ينسب الظلم والتسلط إليه. فغالب تسلط الدول الديني، لا يكون إلا بتسليط رجال الدين وآرائهم. ورجال الدين هم من أفسد اليهودية والنصرانية. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} و نحن نقتدي بهم ونفعل فعلهم بخبر رسول الله في لحديث المتفق عليه «لتتبعن سنن من كان قبلكم حذوة القذة بالقذة» وكما قال عليه السلام في الحديث الصحيح «أكثر منافقي أمتي قراؤها».
المصدر: الجزيرة