كاتب وصحفي سعودي
قرّر توم بارجر بعد ست سنوات عملاً عامل مناجم ثم محاضراً في التعدين في جامعة نورث داكوتا أن ينتقل للعمل مهندساً في شركة تعدين؛ لعله يجد النجاح الذي ينشده ويطرد الضجر الذي يملؤه. لكن آماله تبخرت. كانت الوظيفة الجديدة المحطة الأسوأ في حياته المهنية. انقض على أمريكا الكساد العظيم وأفلست الشركة التي كان يعمل فيها. قام بمراسلة الدكتور جي. أو. نوملاند، الذي تعرّف عليه في أثناء عمله في الجامعة؛ كي يساعده على الحصول على وظيفة في شركة ستاندرد أويل كومباني أوف كاليفورنيا، إذ كانت لديها وظائف متوافرة وقتئذ. كان يعرف توم أن ستاندرد شركة زيت وليست شركة تعدين. لكن تشكّلت لديه قناعة أنه لا مستقبل للتعدين في وطنه وقتئذ، ولا مناص من التضحية بشهاداته وخبراته السابقة. ردّ عليه الدكتور نوملاند ببرقية، قال فيها: ”هل تستطيع أن تأتي إلى سان فرانسيسكو عاجلاً لإجراء مقابلة وظيفية؟”. أجابه مباشرةً: ”نعم، سأكون موجوداً الأسبوع المقبل في مقر شركتكم”. استمرت المقابلة نحو ساعة حصل خلالها على العرض الوظيفي من الدكتور نوملاند. اقترح عليه أن يحصل على دورات تأهيلية مكثفة في الجيولوجيا ليسد الثغرات المعرفية التي يفتقدها إذا وافق على الانضمام إلى الشركة.. طلب منه نوملاند أن يتجوّل في الشركة. وبعد أقل من ساعة ناداه إلى مكتبه مجدّداً وقال له: ”سنبعثك إلى السعودية للعمل مسّاحاً هناك.. إذا عملت معنا ستحصل على 300 دولار شهرياً وإجازة مدفوعة لثلاثة أشهر كل عامين”. قبل أن يكمل نوملاند قاطعه توم قائلاً: ”أين تقع السعودية؟” أجابه: ”بعيداً.. بعيداً. إنها صحراء ممتدة. أنا رابع أمريكي يذهب إليها. لديها مساحة كبيرة وتوجد مؤشرات إيجابية عن تدفق الزيت بكميات تجارية هناك في المستقبل. فقد تم اكتشاف كميات زيت في البحرين، الدولة الصغيرة المجاورة لها”.
عارضه بعض زملائه. رأوا أنه يدفن ماضيه ويعرّض حياته ومستقبله للخطر مما جعله يتردّد قليلاً. لكن خطيبته كاثرين شجّعته على الموافقة. شعرت أن هذه الوظيفة ستفتح له أبواباً. قالت له إذا وافقت على هذه الوظيفة سأوافق على الزواج منك فوراً. تزوج توم وبعد أسابيع يمّم وجهه شطر السعودية.
وصل توم إلى السعودية، وتحديداً في كانون الأول (ديسمبر) عام 1937 برفقة مهندسين وجيولوجيين، مثل ماكس ستاينكي، وجيري هاريس، ورني بيرغ وغيرهم.
زواج توم من كاثرين دفعه لتوثيق كل رحلاته التنقيبية بالكلمة والصورة. كان كلما شاهد شيئاً أو جرّب شيئاً كتب لها ليحس أنها معه.
كان يكتب لها ماذا يفعل وماذا يأكل. وكيف يتخاطب بالإشارة مع خميس بن رميثان، الدليل الاستكشافي، الذي يرافقهم ويرشدهم في رحلتهم الممضة. أخبرها أن خميس علّمه القليل من العربية ووعده أن يعلمه المزيد.
كتب لها رسالة قال فيها: ”إننا نسير في الربع الخالي، هذه الصحراء الشاسعة، ونتعثر. تحرقنا الشمس. تراودنا شكوك في الوصول. لكننا ندرك أنه إذا وصلنا سنكتشف شيئاً ثميناً”.
كل رسالة تصلها منه تشعر أنها الأخيرة. لكن فاجأها توم لاحقاً بأنباء سعيدة تتناول اكتشاف كميات واعدة من الزيت.
توالت الأنباء السعيدة. أصبح توم من المهندسين الأوائل الذين أسهموا في اكتشاف الزيت في السعودية. رأى توم أن مهمته لم تنته بعد. شعر أنه جزءٌ من مشروع كبير. جلب زوجته إلى السعودية وتدرج في شركة أرامكو حتى وصل إلى رئيس مجلس إدارة الشركة. تعلّم اللغة العربية وعمل على نقل ملكية الشركة للحكومة السعودية تدريجياً من خلال وظائفه التنفيذية المختلفة. قضى فيها نحو 32 عاماً منحها وقته وعمره ومنحته المال والمجد.
أصدر توم كتاباً باللغة الإنجليزية عام 1986 بعنوان ”أوت إن ذا بلو”، بمعنى: مفاجأة غير متوقعة، جمع فيه بمساعدة ابنه رسائله، التي كتبها إلى زوجته في السعودية والصور، التي التقطها هناك، موثقاً رحلته الملهمة والتاريخية.
إن تجربة توم بارجر ملهمة جداً. فعندما ضحّى بدراسته السابقة وشهادته كسب وظيفة منحته ما لم يكن في حسبانه. مَن لا يتكبّد وعثاء المغامرة لن يحقق شيئاً يُذكر. سيعيد إنتاج مَن سبقه. لكن مَن يضحي ويمضي سيجد ما لم يتوقعه. لم يتوقع بارجر يوماً أن يكون رئيس مجلس إدارة شركة زيت ضخمة وكبيرة، وأنه عندما سيتقاعد سيترأس مجالس إدارات بنوك وشركات مالية كبيرة بسبب ثروته وخبرته.
إن الذين عارضوا توم على التحاقه بشركة الزيت وذهابه إلى السعودية هم الذين جاؤوا إليه لاحقا يتوسلون للحصول على فرصة وظيفية.
كلما قرأت أكثر في سيرة الرواد اكتشفت أن الفرق بينهم وبين غيرهم أنهم نهضوا بعد تعثرهم. ارتفعوا بعد أن سقطوا. غامروا ولم يتقاعسوا. إن الانتصارات لا تأتي إليك، وإنما تذهب أنت إليها.
المصدر: الإقتصادية