كاتب ومحلل سياسي- لندن
أي نوع من التطرّف ينزلق الى العنف من دون شحن ايديولوجي يمكن عزله ثم حصره ثم القضاء عليه، لأنه بطبيعته ليس وباء قابلاً للتعميم. المشكلة هي مع التطرف الديني «المقترن بالغلو والتشدد في الخطاب، وما يرتبط بذلك من لجوء الى العنف، ورفض المختلف الى حد تكفيره، بل محاولة إقصائه في شكل كلّي»، وفقاً لتوصيف بيان حمل عنوان «نحو استراتيجية عربية شاملة لمواجهة التطرّف» وهو خلاصة نقاشات يومين في مؤتمر دعت اليه مكتبة الاسكندرية أوائل الشهر الجاري، ويُفترَض أن تُرفع توصياته الى القمة العربية المقبلة التي تستضيفها القاهرة، باعتبار أن القمة السابقة في الكويت كانت تبنّت اقتراحاً بهذا الشأن قدّمه الرئيس المصري الموقت عدلي منصور موصياً بدوره أن تتولّى مكتبة الاسكندرية ورشة إعداد هذه الاستراتيجية.
والمشكلة مع التطرّف الديني أن الخلاص منه أمنية عاجلة جداً لكنه مهمة لن تنجز إلا على المدى الطويل. لذلك ينبغي تشغيل مسارين: الأول، مواصلة التصدّي الأمني للتطرّف لكن مع الوعي «بأننا تعايشنا معه لأعوام طويلة ويتعيّن علينا التعايش معه لسنوات آتية»، وفقاً لعبارة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، علماً أن التعويل الآن على العمل الأمني ليس سوى محاولة للحدّ من الضحايا والخسائر، ولإبقاء المتطرفين مرفوضين ومطاردين علّ ذلك يساهم في انحسارهم عدداً وزخماً. أما المسار الآخر فيقترح خطط عمل قد تستغرق جيلاً كاملاً للتأكد من نجاحها ونجاعتها، ولكي تتأمن نتيجة كهذه لا بدّ من أن تكون تأمنت أيضاً مجموعة كبيرة من الشروط، فالأنظمة الراهنة بمؤسساتها متفاوتة الكفاءة غير مؤهلة للشروع في واجب كان قبل أعوام يتطلب حدّاً أدنى من الاصلاحات، لكن صعوباته تضاعفت منذ انتفاضات «الربيع العربي» وبعد صعود تيار الاسلام السياسي واكتسابه «شرعية» انتخابية أوهمته بأنه جاهز بمفرده للحكم وادارة البلدان كما لإقصاء الآخرين.
وقد استوجب هذا الوضع مواجهة مع هذا التيار لإعادته الى مسار سياسي طبيعي، لكن خلعه (في مصر) ودفعه الى الانصراف (تونس) أو انصراف الناخبين عنه (ليبيا) أو ارتباطه كلياً ومباشرة بأجندة خارجية (اليمن) كما هي حال الحوثيين مع ايران… أدّت كلها الى تفاقم ظواهر التطرف وبؤره وتحوّلها الى العنف المسلح، والى مآلات أقرب الى حرب أهلية عبثية (اليمن وليبيا) لا يأبه اللاعبون فيها للأخطار الماثلة، ومنها تفتيت الدولة وتقويض الاقتصاد وتقسيم البلاد. فالأهم عندهم أن تتوافر لهم سلطة على أي مساحة لكي يمارسوا عليها نمطهم الظلامي من الحكم. وقد حدث في سورية أن مجرّد التخوّف من هذا التيار أضعف الاحتضان الخارجي للمعارضة المدنية، وكانت نتيجة الإعراض عن دعمها أن الفصائل المتأسلمة أو المرتبطة بتنظيمات ارهابية هي التي احتلّت الواجهة، حتى غدا النظام أمامها «مقبولاً» على رغم اتهامه دولياً بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية بناء على أدلة موثّقة. وفي اللحظة الراهنة جعل التطرّف الديني المسلّح (تنظيم «الدولة الاسلامية للعراق والشام – داعش»، و «حزب الله» و «أنصار الله» الايرانيان، ومجموعة «دواعش» طرابلس الغرب ودرنة) من خمس دول عربية – سورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا – ممزّقة اجتماعياً ومهددة كيانياً وجغرافياً.
إذاً، فالخطر قائم ومتفاعل، بل هو آخذ في غزو عقول المتأثّرين خلال فترة طويلة سابقة سواء بالفكر «الجهادي» – التكفيري أو بـ «تصدير الثورة» الايراني، هذا بهدف استعادة «الامبراطورية الفارسية» وذاك بهدف استعادة «دولة الخلافة». كلاهما يعتبر اميركا والغرب عدوّه الأول، وكلاهما يستفيد من ضعف الدولة أو اضمحلالها عربياً، وقد تعايشا وتعاونا لفترة امتدت من الغزو الاميركي لأفغانستان ثم العراق حتى منتصف العام الماضي عندما تعارض «المشروعان» وارتسمت عوارض صراع مذهبي سنّي – شيعي تبدو ايران وتركيا مندفعتين الى جني مكاسب منه. وفيما تجهر ايران بأنها شكّلت ميليشيات في العراق وسورية ولبنان واليمن ودعمتها ودربتها وعهدت اليها بدور كبير ومباشر في تصنيع «داعش» واستفزاز وحشيته، فإن أحداً لا يدّعي صراحة أبوّة «داعش» على رغم أن تركيا تقيم نوعاً من التعايش معه. وفي الحالين تبدو الولايات المتحدة ماضية في محاولة إرضاء تركيا وطمأنتها الى طموحاتها الاقليمية، كما في التقارب مع ايران على أساس الاعتراف لها (ولميليشياتها) بنفوذ اقليمي.
في ظل انكفاء عسكري عربي فرضته ظروف انهيار أنظمة حاكمة أو اعادة تشكّل أنظمة، لا ريب في أن أي حديث عن «استراتيجية عربية شاملة لمواجهة التطرّف» سيبدو منفصلاً عن واقع معاش تبقى الأولوية فيه لكلمة واحدة: الحرب، وهي بطبيعة الحال مرادفة للتطرف، فحين لا تكون «الحرب على داعش» تكون حرباً اسرائيلية اخرى على الفلسطينيين دعماً لبقاء الاحتلال، وحين لا تكون مجازر يرتكبها نظام سوري لحماية استبداده بسفك دم مواطنيه فيمكن أن تكون هجمات يشنّها أعداء الداخل اليمني أو الليبي طامعين في السلطة ومدّعين قتل النفوس بترخيص ربّاني…
مع ذلك، وحتى لو كانت هذه مرحلة كل التطرّفات، لا شيء يمنع التفكير في هذا التطرّف، بل لا شيء يبرر عدم تشخيص أسبابه وتحديد السبل غير العسكرية وغير الأمنية لمكافحته على المدى الطويل. وكأن الأجيال الحالية انتهى أمرها ووقعت في الحفرة، فبعضٌ ولغ في العنف وأغرق معه البعض الأكبر الذي يُنظر اليه اليوم باعتباره مسؤولاً عن إصابة البعض الأصغر والفشل في انقاذه من وباء التطرّف والارهاب الذي لم يُعثر بعد على لقاح أو علاج له غير الإبادة أو غوانتانامو أو السجون السرّية، وقد بيّنت الوقائع أنها كلها من الوسائل مضمونة الفاعلية في اعادة انتاج التطرّف على نحو أدهى وأكثر توحّشاً. لذا يعتقد كثيرون أن الدول الكبرى التي جرّبت التغلّب على هذا الوباء، وخلصت الى تلك النتيجة، أصبح تكتيكها أن تعمل على توظيفه والاستفادة منه، فيما تقول علناً أنها في صدد القضاء عليه أو إضعافه. أي أنها قررت التعايش معه، شرط أن تنجح في حصره في «بلاد المصدر». لكن اذا حصل وتسرّب اليها (كما حصل أخيراً في باريس) فإن صدمتها تكون عظيمة وردود افعالها شديدة.
في أسباب التطرّف التي أعاد مؤتمر مكتبة الاسكندرية رصدها نجد في رأس القائمة «التعليم والتنشئة الاجتماعية» معطوفين على «الخطابات الدينية المتصلّبة التي تستند الى تأويلات وتفسيرات خاطئة ومناقضة لصحيح الاسلام» وعلى ثلاثية «الفقر والأمية والجهل» التي تدفع الشخص الى الانسياق وراء خطاب ديني مشوّه وفتاوى وتأويلات مغلوطة. لكن هناك أيضاً «الشعور بالقهر نتيجة معايير مزدوجة في العلاقات الدولية تجاه العرب والمسلمين (قضية فلسطين)»، وكذلك «تنامي دور قوى فاعلة، دولاً أو جماعات، في اذكاء التطرّف، ورصد الموارد المادية والبشرية لتأجيج العنف في المجتمعات العربية بهدف خدمة مصالحها من ناحية واضعاف الأقطار العربية وتمزيق اواصرها وعرقلة انطلاق مسيرة التقدّم فيها من ناحية اخرى». حتى لو كانت النقطة الأخيرة تستدعي «نظرية المؤامرة» إلا أنها لم تُغَلَّبها على الأسباب الكامنة في صميم المجتمع، أما التوظيف والاستغلال الخارجيان فأصبحا تحصيل حاصل.
من الواضح أن المعالجات تطمح الى تطوير أدوار التعليم والثقافة والاعلام بالاعتماد على التقنيات والاساليب الحديثة، لكنها تركز خصوصاً على مهمة محورية للمؤسسات الدينية، فهذه مدعوّة الى التصدّي للمفاهيم التي تروج خصوصاً بين الشباب، وأهمها «التفسيرات المشوّهة» لـ «الجهاد والردّة» و «وضع المرأة». كما تتطلب المعالجات «فتح أبواب الاجتهاد والمعرفة الأصيلة بمقاصد الشريعة، والاعتراف بالمنظور التاريخي للتشريع، وتطويره ليتلاءم مع مقتضيات العصر وإحياء جهود المجدّدين من أعلام مفكري الاسلام، والتوافق مع مواثيق حقوق الانسان». وثمة توصية ملحّة بـ «العمل لاستكمال ثقافة علماء الدين بالمعارف المحدثة والفكر التنويري»، فصانعو الأخطاء يجهلونها ولا يُعوَّل عليهم في تصحيحها… وفي كل الأحوال سيبقى الأهم أن انقاذ الدين وانقاذ السياسة يتطلّبان مسارين مختلفين، ومنفصلين طبعاً.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Abdulwahaab-badrakhan