كاتب وأكاديمي ومفكر إماراتي
مع مشارفة عام 2019، عام التسامح، على الانتهاء، والاستعداد لاستقبال عام جديد سيحمل اسماً جديداً لتركيز الاهتمام على قضية وطنية جديدة تخدم مصالح دولة الإمارات العربية المتحدة وأهدافها الوطنية العليا، يجدر بنا أن نتوقف قليلاً لإجراء عملية «جرد حساب»، أو «تقييم» للمكتسبات التي حققتها الدولة من عام التسامح، ولاسيَّما على مستوى مكانتها إقليمياً ودولياً، وصورتها بصفتها رمزاً للتسامح العالمي وحاضنة له، ودورها الداعم لنشر قيم التسامح وقبول الآخر في المنطقة والعالم، فالقول بنجاح أيّ مبادرة أو سياسة يتطلب تقييم نتائجها، والوقوف على مدى تحقيقها الأهداف المحدَّدة لها سلفاً، أو المنشودة منها، وهذا الأمر من أبجديات علمَي الإدارة والسياسة، ولذا فإن حديثنا عن مكتسبات عام التسامح سيُعيدنا، بالضرورة، إلى قراءة الأهداف التي وُضِعت لهذه المبادرة السامية لصاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بإعلان عام 2019 عاماً للتسامح.
فكرة محورية لتعزيز النموذج
ولكن قبل الاستغراق في الحديث عن مكتسبات عام التسامح أجد أنه من المهم الإشارة إلى فكرة محورية حاكِمة للفلسفة العامة التي تنتهجها قيادتنا الرشيدة، حفظها الله، منذ أكثر من عشرة أعوام، بتخصيص كل عام من أعوام الدولة لتسليط الضوء على قضية وطنية ما، أو قيمة إنسانية محدَّدة، وتركيز الاهتمام على هذه القضية أو القِيمة، ووضعها في أعلى سلَّم الاهتمامات الوطنية للدولة والمجتمع، لما لها من أهمية كبيرة في تعزيز قوة الدولة وتماسكها، وترسيخ نموذجها التنموي والحضاري، فطرح قضية أو قيمة ما، وجعلها شعاراً للدولة ومحطاً للتركيز الإعلامي والرسمي فيها لمدة عام كامل، يسهمان بلا شكّ في ترسيخ هذه القيمة الوطنية، وفي تعزيز الوعي المجتمعي بها، وترسيخها في أذهان الرأي العام بجميع فئاته وشرائحه، كما أنهما يدفعان المؤسسات المختلفة داخل الدولة – الرسمية منها وغير الرسمية – إلى طرح أفكار وآليات ومبادرات مبتكَرة داعمة لهذه القيمة ومرسّخة لها، حتى تصبح جزءاً من الثقافة العامة للمجتمع، وموجهاً للسياسة الرسمية، وهو ما لمسناه بوضوح في المبادرات السابقة، بدءاً من عام الهوية الوطنية 2008، مروراً بعام الابتكار، ثم عام العطاء، وعام القراءة، وعام زايد، الذي كان أكثر الأعوام رمزيةً لارتباطه باسم القائد المؤسس، المغفور له، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيَّب الله ثراه، فكل عام من هذه الأعوام كانت له مكتسباته التي لا يمكن إغفال أهميتها في تعزيز الوعي المجتمعي بالقضية أو القيمة التي طُرِحت خلاله، وكذلك أهميتها في مسيرة التطور الوطني في دولة الإمارات العربية المتحدة ومكانتها الخارجية.
محاور رئيسية
ولا يخرج عام التسامح عن هذه الفلسفة العامة، فالأهداف التي طُرِحت، منذ بداية إطلاق المبادرة السامية بتسمية عام 2019 عاماً للتسامح، كانت واضحة، وتوزعت على محاور رئيسية عدة أهمها: تعميق قيم التسامح والانفتاح على الآخر في المجتمع الإماراتي، وترسيخ مكانة دولة الإمارات العربية المتحدة عاصمةً عالميةً للتسامح، وتأكيد قيمة التسامح بصفتها عملاً مؤسسياً مستداماً من خلال مجموعة من التشريعات والسياسات الهادفة إلى تحقيق هذا الهدف، وتعزيز التسامح الثقافي، فضلاً عن تعزيز خطاب التسامح وقبول الآخر من خلال مبادرات إعلامية وتعليمية وثقافية هادفة. والسؤال المركزي هنا هو: هل تحققت هذه الأهداف؟ وهل اقتصرت مكتسبات عام التسامح على هذه المجالات فقط، أم أنها كانت أكثر شمولاً وعمقاً؟
إن نظرة موضوعية إلى مجمل المبادرات والفعَّاليات والبرامج والسياسات، التي شهدتها دولة الإمارات العربية المتحدة لتعزيز قيمة التسامح خلال عام 2019، على تنوُّعها وتعددها، لا تترك مجالاً للإجابة عن هذا السؤال إلا بـ«نعم»، ففيما يتعلق بالهدف الأول، الخاص بتعميق قيم التسامح والانفتاح وقبول الآخر في المجتمع، نجد أنه تحقق بنسبة كبيرة للغاية، فالتركيز رسمياً وإعلامياً على قيمة التسامح خلال عام كامل، والفعاليات والبرامج المتنوعة التي شهدتها الدولة لترسيخ هذه القيمة، خلقت جواً عاماً داعماً لقيمة التسامح، ومعززاً للوعي المجتمعي بها في جميع مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية، كالمدارس والجامعات والمؤسسات الحكومية والخاصة، والمؤسسات الفكرية والبحثية، وفي مقدمتها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، الذي جعل هذه القضية محور تركيزه وعمله الفكري، حيث نظَّم سبع محاضرات علمية عن التسامح لتوعية المجتمع الإماراتي بأهمية هذه القيمة الإنسانية وأبعادها المختلفة، ونشَر العديد من الإصدارات والدراسات والمقالات، التي استهدفت ترسيخ التسامح في الوعي المجتمعي، وإبراز نموذج التسامح الإماراتي إقليمياً وعالمياً.
سلاح التسامح لمواجهة التطرف
وتجب ملاحظة أن الحديث هنا هو عن «تعزيز» قيمة التسامح و«تعميقها»، لأن هذه القيمة موجودة بالفعل، ومتجذّرة في ثقافة أبناء الإمارات وتاريخهم، وتمثل أحد أهم نتاجات إرث زايد الخير، رحمه الله، لكن انتشار موجات التطرف والكراهية والعنف، التي تروّج لها التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة بمختلف أشكالها، في كثير من بلدان العالم ومناطقه، ولاسيما في عالمنا العربي والإسلامي، كان يحتّم إعادة التركيز على قيمة التسامح، وترسيخها في قلوب جميع فئات المجتمع وعقولهم، بصفتها سلاح المواجهة الأهم في وجه انتشار الأفكار والأيديولوجيات والأعمال الإرهابية، التي تتغذى على قيم الكراهية والتطرف، وأستطيع أن أقول بثقة كبيرة إن أول مكتسبات عام التسامح وأهمها هو أنه أعاد هذه القيمة إلى الواجهة من جديد، وزاد الوعي المجتمعي بها وبأهميتها في الحفاظ على استقرار المجتمعات وتقدمها.
وبالنسبة إلى الهدف الثاني، المتمثل في ترسيخ مكانة الإمارات عاصمةً عالميةً للتسامح، فلا شك أن الفعاليات العالمية التي شهدتها دولة الإمارات العربية المتحدة، والمبادرات التي أطلقتها خلال هذا العام لتعزيز قيمة التسامح عالمياً، قد عززت من وضعها عاصمةً عالميةً للتسامح، ويكفي أن نشير هنا إلى حدثين مهمين: الأول هو إطلاق «وثيقة الأخوَّة الإنسانية»، التي وقَّعها قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الجامع الأزهر الشريف، بأرض دولة الإمارات العربية المتحدة في فبراير 2019، وبرعاية ومشاركة فاعلة من قيادتها الرشيدة، حفظها الله، فهذه الوثيقة، بما تضمَّنته من مبادئ سامية لتعزيز نهج التسامح وقبول الآخر والأخوَّة الإنسانية والعيش المشترك بين أتباع أكبر ديانتين على مستوى العالم كله، أكَّدت بما لا يدع مجالاً للشك أن الإمارات دولة تحمل رسالة خير وسلام وتسامح، وتسعى إلى نشرها في العالم كله.
وثيقة الأخوَّة الإنسانية
والحدث الثاني، وهو يرتبط بوثيقة الأخوَّة الإنسانية، وينبثق منها أيضاً، هو مبادرة «بيت العائلة الإبراهيمية»، الذي أمر صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، حفظه الله، بتشييده بجزيرة السعديات في أبوظبي، ليكون مظلة تجمع تحت سقفها أصحاب الديانات الثلاث الإبراهيمية، الإسلامية والمسيحية واليهودية، ومنطلقاً لترسيخ خطاب ديني تسامحي عالمي، يعزز قيم الخير والسلام والمحبة والتآخي الإنساني بين مختلف الديانات والطوائف في العالم.
لقد أكد هذان الحدثان المهمان بجلاء للقاصي والداني أن دولة الإمارات العربية المتحدة ليست وطناً للتسامح فقط، وإنما مركز مهم لنشر التسامح في العالم كله أيضاً، ولاسيما التسامح الديني، الذي كان قد بدأ يتوارى في المنطقة والعالم تحت وطأة ضربات المتطرفين من كل الديانات والثقافات.
التسامح عمل مؤسسي
أما الهدف الثالث، المتعلق بتأكيد قيمة التسامح، بصفتها عملاً مؤسسياً، فقد باشرت الدولة في تحقيقه حتى قبل إعلان عام التسامح، وذلك من خلال استحداث منصب وزير دولة للتسامح لأول مرة بالمنطقة والعالم في عام 2016، واعتماد مجلس الوزراء في يونيو 2016 البرنامج الوطني للتسامح، وتأسيس المعهد الدولي للتسامح في عام 2017، ثم تعززت هذه الجهود مع انطلاق عام التسامح 2019، مع التركيز على تعميم قيمة التسامح وترسيخها داخل المؤسسات الحكومية والخاصة، من خلال توفير برامج تثقيفية. وقد نجحت الدولة بالفعل، من خلال هذا التوجه، في تحويل التسامح من إطاره القِيَمي إلى إطار مؤسسي يضمن استدامة هذه القيمة الإنسانية وتعزيزها، وحَمَت هذا التوجه بسياج من التشريعات والقوانين المجرِّمة لأي فعل غير تسامحي، أو يحض على الكراهية والتطرف وازدراء الآخرين لأي سبب ومبرر، ومن أهمها قانون مكافحة التمييز والكراهية الصادر عام 2015.
المبادرات المجتمعية
أما الأهداف الأخرى، المتعلقة بتعزيز قيمة التسامح في مجال التعليم، ومن خلال مبادرات إعلامية وثقافية هادفة، فلا شك أنها بدورها كان لها نصيب مهم من النجاح، فالفعاليات التي نظمتها المدارس والجامعات زادت من وعي الطلاب بهذه القيمة، ورسَّختها في أذهانهم. والمبادرات المجتمعية والثقافية المختلفة التي تم تنظيمها لتعزيز التواصل بين مختلف الجنسيات والثقافات داخل الدولة وخارجها، ولاسيما تلك الموجَّهة إلى أبناء الجاليات المختلفة التي تعيش على أرض الدولة، عزَّزت صورة المجتمع الإماراتي المتسامح في أذهان هذه الجاليات، فيما أدَّى التركيز الإعلامي على هذه القيمة طوال عام كامل دوراً كبيراً في تعزيز الوعي المجتمعي بقيمة التسامح، وبدور دولة الإمارات العربية المتحدة في نشر هذه القيمة وترسيخها محلياً وإقليمياً وعالمياً.
مكتسبات كبيرة
إن مكتسبات عام التسامح كبيرة للغاية، سواء على مستوى تعزيز الوعي المجتمعي بأهمية التمسك بخلق التسامح والحفاظ عليه بصفته أساساً للاستقرار المجتمعي والتقدم الإنساني ومواجهة نزعات التطرف والإرهاب، أو تعزيز صورة دولة الإمارات الإيجابية في العالم بصفتها وطناً للتسامح وعاصمة عالمية له، ولاسيما في ضوء الدور المهم الذي أدته في مجال ترسيخ التسامح الديني، الذي جسَّدته بوضوح وثيقة الأخوَّة الإنسانية التي صدرت عن أرض دولة الإمارات برعاية قيادتها الرشيدة. فإذا كان العالم يحتفي بيوم عالمي واحد للتسامح، هو اليوم الذي يوافق السادس عشر من نوفمبر من كل عام، فإن دولة الإمارات العربية المتحدة خصصت عاماً كاملاً للتوعية بهذه القيمة، وطرحت خلاله عشرات، وربما مئات، المبادرات والفعاليات والمؤتمرات التي جعلت من اسم الإمارات مرادفاً للتسامح في العالم كله، وهذا الاهتمام بتعزيز قيمة التسامح لن يتراجع في أجندة الاهتمامات الوطنية بعد انتهاء عام التسامح، لأنه يجسد قيمة أساسية من قيم مجتمع الإمارات، وجزءاً من منظومة التقدم الحضاري الإماراتية، وضمانة أساسية لاستمرار استقرار المجتمع ووحدته وتماسكه، والعامل الأهم في تحصين المجتمعات ضد موجات الكراهية التي تغذيها الجماعات المتطرفة في العالم، ومن ثم فالاهتمام بقيمة التسامح بصفته قيمة أساسية لمجتمع الإمارات سيتواصل، لأن هذه القيمة، وغيرها من القيم الإنسانية، هي العنصر الأهم من عناصر القوة الناعمة لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي ضمنت لها الاحترام والتقدير عالمياً، وهو ما أشار إليه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، في رسالة التسامح التي نشرها بمناسبة اليوم العالمي للتسامح في نوفمبر 2016 بقوله: «أهم مكتسبات الإمارات هي قِيَمها وأخلاقها ومبادئها التي يحترمنا العالم من أجلها، والتي نريد أن ننقلها إلى الأجيال القادمة».
المصدر: الاتحاد