كاتب لبناني
كانت الكويت أول دولة تعلن استقلالها في الخليج العربي وتنهي معاهدة الحماية البريطانية. وكانت أول هدية عربية في استقلالها مطالبة الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم بضمها إلى العراق. كان الامتحان صعباً ومريراً؛ لكن الكويت نجحت في التصرف كدولة، ومضت تبني نفسها وفق أصول الدول الحديثة والكيانات العريقة.
كان الشيخ عبد الله السالم رجلاً متنوراً أحاط نفسه برجال متنورين. وكان مدركاً أن أفضل حماية للدولة المستقلة استقرار داخلي وصداقات دولية متينة. في عملية البناء هذه، اختار جابر الأحمد لإرساء الصناعة النفطية، ثروة البلاد، واختار صباح الأحمد، لترسيخ دبلوماسية بارعة تبحر بالبلاد بين بحار العرب ومحيطات العالم.
كان صباح الأحمد، لأكثر من أربعة عقود، رجل الظل في الداخل، ورجل الضوء في الخارج، ماهراً في الإدارة وبارعاً في السياسة. وعندما باشر في إنشاء وزارة الخارجية وعملها ومؤسساتها، تصرف وكأنه يخطط لدولة كبرى. وهكذا فعلاً بدت صورة الكويت في الجامعة العربية، وفي الأمم المتحدة، وفي كل مؤسسة دولية أخرى.
وبسبب هذه الجدية المطلقة في العمل، استطاعت الكويت أن تقوم بدور الوسيط في قضايا العرب الشائكة، وهي كثيرة وأشواكها شتى. وبسبب مصداقيته وسعة صدره، أصبح صباح العرب وسيط العرب، يتطلعون إليه كلما وقعت أزمة أو اشتعلت حرب أو اشتد نزاع. وكان يحرص على أن يقوم هو شخصياً بالعمل الأساسي في كل وساطة.
احتلال العراق للكويت زعزع مصداقية العراق والثقة بالنظام العربي؛ لكنه لم يزعزع إيمان الكويت بعروبتها. عندما سألت الشيخ صباح عن مستقبل الدور، بعد تحرير الكويت، قال: لن نتخلى عن التزاماتنا لحظة واحدة؛ لكننا لن نُخدع بالوعود الكاذبة مرة أخرى. الكويت باقية كما هي.
عندما صار صباح الأحمد أميراً، كان قد أصبح وفي مسيرته سلسلة طويلة من الخبرات في الداخل والخارج؛ لكنه أصبح أكثر اقتناعاً بجدوى العمل الإقليمي ودور الخليج، أولاً في حماية نفسه، وثانياً في التعاضد العربي. وصار يرى أن انفلاش الاضطراب والأنانية والنفور بين العرب، عدوى لا بد من ردها عن الخليج؛ حيث يقيم الملايين، أربعة ملايين منهم في الكويت وحدها.
كرس الأمير وقته للداخل. كبرت تحديات الكويت وكبرت مسؤوليات الدولة، واشتعلت الأزمات في المنطقة العربية. والكويت التي شارك صباح الأحمد في بنائها وهي مليون نسمة أصبحت الآن ستة ملايين، كما أصبحت الدولة السادسة في إنتاج النفط، هذه الثروة التي أصبح من المحتم البحث عن بدائل مستقبلية لها. وهذه السنة، ربما للمرة الأولى في تاريخها، تواجه عجزاً في الموازنة ونقصاً في تسديد الرواتب، هي الدولة التي توظف نحو 90 في المائة من القوة العاملة، في نظام رعائي شبه كامل.
أخرج الشيخ صباح الكويت من أزمات كثيرة. ومثل أسلافه، أدار الحاضر وبنى شيئاً للمستقبل. كان بالغ الجدية في مسؤولياته وقريباً جداً من الناس، يتفقد أهل «الديرة» ويشاركهم أعيادهم ويواسيهم في أحزانهم. سوف يفتقدونه كما يفتقده عرب الحكمة والهدوء.
المصدر: الشرق الأوسط