كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو
في يوم الجمعة ٨ تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري أصدرت منظمة اليونسكو قرارها بحرمان الولايات المتحدة الأميركية من (حق التصويت) بعد أن امتنعت الدولة العضو عن دفع مساهمتها احتجاجاً على انضمام فلسطين الى المنظمة.
وفي يوم الإثنين ١١ تشرين الثاني ألقى وزير خارجية (دولة) فلسطين، ولأول مرة، خطاب الدولة الكاملة العضوية من على منبر اليونسكو .. الذي تُلي عليه نفسه قبل ٣ أيام قرار الحرمان الأميركي.
يحتاج هذان المشهدان الملفتان، في تحجيم أميركا وتفخيم فلسطين، إلى تأمل وتحليل وإعادة نظر في ما يجري في العالم من حولنا!
لم يكن مشهداً عاديّاً ورتيباً ذلك الذي وقع غداة الإعلان عن تقليص النفوذ الأميركي داخل اليونسكو. كان المشهد أكثر تراجيدية على الوفد الأميركي الكبير، الحاضر في القاعة، حين تُلي قرار الحرمان، وقد كانت إلى جوار الولايات المتحدة الأميركية (العظمى) في القائمة دول هامشية صغرى من جزر المحيط التي لا تظهر في خريطة العالم محرومة أيضاً من حق التصويت، مثل: انتيغوا باربودا، ميكرونيزيا، ساوتومي. أما الدولة الخامسة في قائمة المحرومين من التصويت فهي: إسرائيل.
وجود إسرائيل إلى جوار الولايات المتحدة في اللائحة السوداء يفتح مجالاً أرحب للتمعن. لكأن الولايات المتحدة التي ربطت نفسها بالمصير الإسرائيلي طوال العقود الماضية، أصبحت الآن مربوطة معها حتى في مواقع التحجيم والتصغير والانهزام.
أين بريطانيا، التي صنعت إسرائيل بوعدها الشهير؟ لماذا غابت عن التحالف؟ أين فرنسا حاضنة أكبر جالية يهودية في أوروبا؟ أين ألمانيا التي ظلت عقوداً تستجدي الغفران اليهودي من فعلة هتلر الشنيعة؟
هنا يكمن الفرق بين السياسة الأوروبية الرصينة والمحافظة ونقيضتها الأميركية.
هذه هي الصفعة الثانية التي تتلقاها الولايات المتحدة من منظمة اليونسكو. كانت الأولى في العام ١٩٨٤ بيد مدير عام المنظمة «السوبرمان» أحمد مختار أمبو، بسبب خلاف إيديولوجي ذي علاقة بالحرب الباردة بين أميركا وروسيا، أما الصفعة الثانية فهي التي ما زلنا نسمع دويّها الآن، وهي هذه المرة بيد الدول الأعضاء كافة بسبب خلاف سياسي حول الحرب الساخنة بين فلسطين وإسرائيل!
في المرة الأولى استطاعت أميركا أن «تجرجر» معها بريطانيا للانسحاب من المنظمة. هذه المرة لم تستطع أميركا جر بريطانيا لمشاركتها الموقف. لماذا؟ هل هذا مؤشر إضافي إلى أن أميركا الآن أضعف منها في العام 1984؟ بل هل يسوغ لنا أن نقول إن إسرائيل هي التي جرجرت أميركا معها هذه المرة؟!
هل فوجئت الولايات المتحدة بالشجاعة الفائقة للدول الأعضاء في اليونسكو في المضي نحو حرمانها من التصويت، والمجازفة بخسارة ما يقرب من ربع موازنة المنظمة مقابل المحافظة على حرية القرار فيها؟
المؤكد الآن، أنك إذا أردت أن تقيس قوة دولة من خلال حراكها الديبلوماسي في المنظمات الدولية فلا تقسه في مجلس الأمن، حيث الفيتو الديكتاتوري، بل قسه في سائر المنظمات الدولية الأخرى الكاملة الديموقراطية!
هنا يجب أن لا ننسى القرار السعودي المثير، الشهر الماضي، بالانسحاب من عضوية مجلس الأمن بعد انتخابها احتجاجاً على انحياز المجلس وعدم كفاءته في معالجة مشكلات المنطقة، وحثّاً على إصلاح منظومة الأمم المتحدة كي تكون أكثر فعالية وعدالة.
بات مؤكداً أيضاً، بعد مشاهد اليونسكو الدراماتيكية، أن الدول الخمس «العظمى» في مجلس الأمن لن تقبل أي مبادرة لإصلاح منظومة الأمم المتحدة إذا كانت ستجلب لها «ديموقراطية» تهدد نفوذها.
كنا نردد لسنين طويلة أن المنظمات الدولية ما هي إلا لعبة. بات واضحاً الآن لمن يتابع ما يجري مؤخراً فيها أن المنظمات الدولية ليست لعبة .. بل هي ملعب!
المصدر: صحيفة الحياة