كاتب سعودي
يختلف تحديد وتعريف الإنجاز من مجتمع إلى غيره، ومن فرد إلى آخر. الاختلاف الذي نتحدث عنه يعتمد على معايير معينة متصلة بمكتسبات المجتمع وأولوياته وتنوع المنافسة داخل أفراده ومؤسساته. ما يبدو منجزاً لدينا في العالم العربي ربما يبدو تافهاً في اليابان.
لنتفق إذاً أن الإنجاز لدى شخص – مؤسس «فيسبوك» مثلاً – يختلف عن إنجاز شخص آخر يعيش في إحدى جمهوريات الموز. يأتي مع الإنجاز الشعور به. هناك من يراه الآخرون صاحب ابتكارات ومنجزات، بينما هو لا يرى نفسه كذلك، لأنه لم يصل بعد إلى تحقيق أهدافه. هذا الشخص لا يشعر بالإنجاز أو التميز بعد، وفي المقابل هناك من يرى نفسه منجزاً ويفخر بهذا الإنجاز. الأخير عادة هو صاحب المنجز الأقل جودة، ويتكاثر ذلك في المجتمعات الأقل وعياً ونمواً، على أن الشعور بالإنجاز ليس مجرد مشهد عابر، بل له ما عليه من التبعات. خطورة شعور الغالب الأعم من العرب بتحقيق منجز، أي منجز، ربما تدفع بهم إلى خطوات أخرى لاحقة، ليست بالضرورة حميدة، أو على الأقل تدفعهم إلى التوقف وعدم البحث عما هو أفضل.
ولو أن هذه الإنجازات في منطقتنا العربية كبيرة وعظيمة ومفيدة لما وجدت شيئاً أتحدث عنه في هذه المقالة. المشكلة أن «بعض» أو أكثر منجزاتنا أحياناً كرتونية هلامية لا قيمة لها، وأحياناً أُخر تأتي بنتائج عكسية كارثية مدمرة.
على سبيل المثل، ربما يشعر الفرد لدينا بالإنجاز لمجرد استمراره في الجامعة وحصوله في ما بعد على الشهادة الجامعية، ولو بتقدير «جيد»، بصرف النظر عن التخصص. هذا الشخص في الغالب لم يجرب العمل قبل التخرج، ولذا سيتوقع أن الطريق إلى الوظيفة مفروشاً بالورد لمجرد أنه يحمل شهادة، لكنه يواجه الواقع في ما بعد بكل مرارة، ويبدأ بلوم كل من حوله لأنه لم يجد وظيفة بالسهولة التي كان يتوقعها!
في الدول المتقدمة، يتم التخطيط للوظيفة قبل التخرج، وربما يؤدي الطالب أثناء دراسته، أي قبل التخرج، مواد تطبيقية لدى الجهة التي ينوي العمل بها. إذاً فالإنجاز لا يفترض أن يقل عن توقيع عقد العمل والتفوق في الأداء، لأن الشهادة ليست إلا أداة لإيصال الشخص إلى المعترك الحقيقي والتنافس على العطاء، وهو الميدان.
على مستويات أقل من ذلك، هناك من يظن أن وجود واسطة لديه في إدارة حكومية أو أهلية يعد إنجازاً، وآخر يعتقد أن المراوغة والسرعة في الطرق الواسعة وفي غياب هيبة النظام أنه تميز. مع ظهور وسائل التواصل الحديثة أصبح الخائن للوطن والبائع للمكتسبات من يقف في صفوف الأعداء مميزاً عند بعضهم، حتى لو كان هذا البعض مجرد معرفات وهمية تدار من الخارج. فهذا يرفع شعارات «الإخوان»، حتى مع علمه وإدراكه أن هذه الجماعة ليست فقط مفلسة، بل تمارس الخيانة في بعض مواقفها من بلادنا.
على أن أخطر مظاهر الشعور بالإنجاز هو ما حدث في السعودية في الثمانينات والتسعينات الميلادية الماضية، وامتد إلى خارجها في ما بعد. خطورة ذلك – برأيي – لأن هذا «المنجز» تنوع وتلون وتضخم في ما بعد. أتحدث هنا عما يسمى بـ«الصحوة الإسلامية» التي يتمثل الفرد بها بالالتزام الديني ويأخذ المجتمع لوناً تغلب على ظاهره المحافظة.
أصبح هذا الالتزام لدى الكثيرين – وهو أمر محمود عموماً – إنجازاً، ليس ذلك فقط، بل إن المجتمع بأكمله شعر بالإنجاز والتميز وبدأت الحياة والممارسات اليومية تأخذ نهجاً مختلفاً يغلب عليه التشدد وكثرة الفتاوى التي تحرّم ما كنا نعرف عن بأنه حلال مباح أو مختلف عليه على الأقل، وهكذا أصبح الشخص «الملتزم» في أوقات طويلة من العقود الماضية وبسبب تفاعل الناس يُنظر إليه بأنه أكثر الموجودين في المجالس مكانة واحتراماً، على رغم أنه لم يقدم للمجتمع شيئاً. هو قرر أن يكون متديناً وهذه تحسب له هو فقط. ما شأن المجتمع بذلك؟ وما الفائدة التي ستخرج إلى الناس منه؟ هذه الظاهرة وأقصد وصول «الملتزم» إلى هذه الدرجة من الحفاوة والاحترام دفعت بالكثيرين إلى التمظهر بشخص «الملتزم» حتى لو لم يكونوا بالفعل ملتزمين. كيف لا وهو يرى هذه المكاسب التي انهالت عليه من دون أي جهد؟ في النهاية تحقق لدى الكثير من هؤلاء شعور بالإنجاز جعل طموحهم في الغالب يتوقف عند هذا الحد، إضافة بالطبع إلى أن الالتزام يعني لدى الفرد الزهد بالدنيا وزينتها ولذا وبوصفها نتيجة حتمية فهو لن يتعب كثيراً في سعيه إلى الإبداع، لأن الإبداع عنده تحقق وتوقف هنا.
اليوم أخي الشاب «الملتزم»، سواء التزمت أم لم تلتزم، ستحتاج إلى آفاق جديدة لتنجح وتقدم لبلادك ومجتمعك ما هو متوقع منك. الجانب السلبي هنا أن ظاهرة الالتزام قادت بعض المتحمسين إلى ما يعرف بـ«الاحتساب»، وبدأنا نشاهد انطلاقات هؤلاء الشبان في كل مكان «دفاعاً»، بسبب ما أخذ من مصطلح «المخالفات الشرعية». فهذه مسرحية يتم إيقافها عنوة حتى لو أنها تملك كل التصاريح الرسمية. هذا المهرجان مثل الجنادرية والورد وغيرها أصبحت عرضة لهجوم هؤلاء «المنجزين» الذين يعتقدون فعلاً أن هذا من واجباتهم. معارض الكتب والمكتبات هي الأخرى هدف مشروع لمثل هذه الغزوات. كل ما نشاهده من هذا القبيل يأتي بسبب شعور الفاعل بأن عمله هذا من «الإنجازات» التي تجب المحافظة عليها.
خضوع المجتمع ومقدراته وخططه التنموية لمثل هذه الاعتراضات والضجيج الذي استمر بلا توقف والهلع من الوقوع في هذه «المخالفات» كان له بالغ الأثر في بناء الاقتصاد وفرص العمل به، لهذا نعاني اليوم من ضيق الوعاء الوظيفي بسبب خوف المستثمرين من ضخ أموالهم في مثل هذه البيئة الطاردة للاستثمار وغير الخاضعة لأية لوائح تضع حداً لهذه الاعتداءات.
إضافة إلى ما ذكرناه توغل أصحاب الأفكار التكفيرية داخل هذه الأطر الدينية المتشددة، ووجدوا البيئة المناسبة لهم بكل يسر وسهولة، ولا حاجة لي إلى الحديث عن انتشار فكر «الجهاد» والعنف حتى وصل إلى التفجير داخل الوطن ومحاولات اغتيال بعض المسؤولين.
ها هم اليوم يبدأون صفحة جديدة من «الإنجاز»، وهي الاقتتال بين المجاهدين أنفسهم. أية كارثة حلّت بنا بسبب ما كان المجتمع يراه تميزاً وتفوقاً وإنجازاً؟ يا لها من خيبة أمل كبيرة لم تكن لتحدث لولا الفقر المدقع في المنجزات الأخرى!
اليوم وبعد أربعة عقود من التوجس بدأ المواطن في المملكة يشعر بالحاجة إلى صحوة من تلك «الصحوة»، كم سنستغرق للخروج من دهاليز تلك الحقبة؟ الله أعلم. كم ضاعت علينا من فرص البناء والتقدم؟ كبير وكثير جداً.
الذي أريد أن أصل إليه أنه ليس كل عمل تنفرد به عن الآخرين أو ربما يراه الآخرون مميزاً يعتبر إنجازاً، الإنجازات تخضع لمعايير دقيقة وصارمة وتقاس فقط بواسطة هذه المعايير. على سبيل المثال وليس الحصر، ماذا قدمت لمجتمعك ولوطنك ولأسرتك؟ بماذا أسهمت في نشر الوعي وارتقاء الذوق وحسن الأداء؟ ما الذي يمكن أن يميز عملك بإيجابية عن الآخرين؟ ما إسهاماتك في بناء الفرد والبيت والأسرة؟ أين تضع نفسك بجانب بعض الرواد العظماء الذين أسهموا في بناء هذا الكيان العظيم؟ ومعظم آبائنا وأجدادنا يذكرونهم على رغم أن كتب التاريخ المدرسية أهملتهم في سعي القائمين على التعليم «المخترق» لإهمال كل ما هو وطني؟ أستطيع أن أضع مئات الأسماء التي تضيء سيرة هذا المجتمع، لكنهم أقلية – مع الأسف – في بيئة الإنجازات الوهمية التي نعيشها اليوم.
من هنا، فإنه يتحتم علينا في المملكة زرع مفاهيم المنجزات عبر طرق مبتكرة وغير مسبوقة، منها مثلاً اختيار من يمكن وصفهم بأفضل المنجزين وبشكل سنوي، وتقديمهم للمجتمع في احتفالات كبرى تليق بما يقدمونه من ابتكارات وجهد وإخلاص.
التكريم هنا تكريم دولة وبواسطة أعلى السلطات في البلاد كما يحدث في العديد من الدول المتقدمة. لنضع لها مسمى: «جائزة الدولة العليا للمميزين» وليس شرطاً أن تقتصر على أهل الخبرات الطويلة من الكبار سناً، بل يمكن تفصيلها لتصل إلى فئة الشبان بمعايير معينة تناسب مع منجزاتهم. من الطبيعي أن تحمل هذه الجائزة مكافآت مجزية، مثل منزل محترم ومكافأة مادية إضافية.
رعاية الدولة لهؤلاء مقترنة بما تستحقه من التغطية الإعلامية اللائقة ستقلب المفاهيم القديمة لما كان بعضهم يظن أنه منجز، وسيقدم كوكبة جديدة من الأسماء التي تعمل وتبدع في الظل، وربما لم يسمع بها أحد. سيكتشف المجتمع أن هؤلاء هم المنجزون ومن يرفع رأس الوطن. لو نفعل ذلك فسيتوقف بعضهم ممن أشرت إليهم في هذه المقالة ويسألوا أنفسهم، فعلاً ماذا قدمنا؟
مجرد وجهة نظر متواضعة في سبيل الارتقاء بالوعي والطموحات. أتمنى أن تلقى بعض الاهتمام.
المصدر: الحياة