منطق اللغة أو منطق الخطاب؟ نحو تأسيس جدلي لمفهوم التماسك النصي

آراء

     خاص لـ هات بوست: 

    يُعَدّ التماسك النصي أكثر من مجرد روابط لغوية تُحكِم اتصال الجمل والفقرات، فهو مبدأ فلسفي يكشف عن منطق خفي يحكم اللغة في لحظة انبثاقها خطاباً، فالخطاب لا يتأسس إلا حين تتجاوز اللغة مستوى التراصف اللفظي إلى مستوى البنية الكلية التي تُولِّد المعنى وتُؤسِّس للوعي، ومن -هنا- يصبح التماسك النصي آلية كاشفة عن العلاقة الجدلية بين منطق اللغة الذي يضبط انتظامها الداخلي، وفلسفة الخطاب التي تمنحها أفقها التداولي والمعرفي.

        ومصطلح (التماسك النصي) من أكثر المفاهيم اللغوية تركيباً وإثارةً للجدل، لأنه يقف عند حدود العلاقة بين النظام اللغوي بوصفه منطقاً حاكماً للقول، والخطاب بوصفه ممارسة فكرية وثقافية تنتج المعنى في سياقات متغيرة، فإذا كان منطق اللغة يسعى إلى ضبط انتظام البنية وفق قوانين النحو والدلالة وتنوع السياقات المعرفية والوظيفية، فإن فلسفة الخطاب تتجه إلى مساءلة هذا الانتظام، وكشف ما يتخلله من توتر بين اللغة والفكر، لذا فإن التماسك النصي لا يُفهم على أنه خاصية شكلية تنظم ظاهر النص فحسب، بل هو فعل معرفي فلسفي يكشف عن انسجام عميق بين منطق النسق اللغوي ورؤية المتكلم.

        وحظي هذا المصطلح أو المفهوم اللساني باهتمام كبير من قبل علماء لسانيات النص في العصر الحديث، وأسهبوا في تحليل مفهوم الارتباط النصي، تعويلاً على فكرة أن التماسك النصي هو السمة التفاعلية المميزة للنص من خلال النظر في الوحدة الكلية المكونة له متجاوزاً بذلك مفهوم الوحدات المفردة.

            هذه الظاهرة اللسانية تهدف إلى تأكيد أهمية تحقيق الترابط والتلاحم والتسلسل الجملي لأي نص كان، ذلك أن كل جملة تمتلك بعض أشكال التماسك عادة مع الجملة السابقة مباشرة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كل جملة تحتوي -على الأقل- على رابط واحد يربطها بما حدث مقدما، وبعض الجمل يمكن أن تحتوي على رابط يربطها بما سوف يحدث، ويُشكّل مصطلح التماسك (المقولة العامة)، لهذا أولى علماء النص هذه الظاهرة عناية قصوى وقدموا له تصورا دقيقا.

        وأشاح التماسك في أحد وجوهه عن منطق عقلي، إذ  يقوم على مبدأ الوحدة في التعدد: وحدة الخطاب الكلي رغم تعدد جمله ومفرداته، وهي وحدة لا تتحقق إلا عبر شبكة من الروابط النحوية والدلالية والإحالية التي تجعل النص شبيهاً بالكائن الحي، و-هنا- يلتقي التماسك مع البعد الفلسفي للهوية، حيث لا هوية بلا وحدة، ولا وحدة بلا انتظام داخلي، وامتداداً لهذا التكوين السياقي فإن البحث في التماسك النصي يقتضي تجاوز المقاربة الشكلانية التي اختزلته في أدوات الربط والإحالة، إلى أفق تأويلي ينظر إليه بوصفه نتاجًا لتفاعل أنساق لغوية وعقلية وثقافية، وما ذاك إلا لأن النص لا يمكن أن يُحكم عليه بالتماسك لمجرد انتظام عباراته، بل حين يكون وراء هذا الانتظام وعياً لغوياً يحكم توليد المعنى وتوجيه الخطاب، فشكّل هذا المفهوم حدوداً تقاربية بين اللساني والفلسفي، إذ يصبح التماسك نتاجًا لتكامل منطق اللغة كأداةٍ للفهم، وفلسفة الخطاب بوصفه إطاراً لتأويل المعنى، وخلفيات التحدّث، ومنطقيات المقاصد.

       إضافة إلى ما سبق فإن التماسك يتجاوز وظيفته اللغوية ليؤسس بعداً تداولياً، إذ يتيح للخطاب أن يمارس سلطته الإقناعية والتأويلية،

 ويتجلى الأفق الأعمق للتماسك النصي حين ننظر إليه كآلية فلسفية للربط بين الفكر واللغة، فالفكر في جوهره بنية مترابطة، لا تُفهم أجزاؤه إلا في سياق الكل، واللغة حين تعكس هذا البعد الفكري، فإنها تُحيل إلى التماسك لكونه صفة وجودية للفكر ذاته، لذا يمكن القول: إن النص المتماسك ليس انعكاساً لصرامة لغوية فحسب، بل هو مرآة لعقل منظم، ووعي يسعى إلى أن يُترجم نفسه في خطاب متكامل.

          أثر التماسك النصي في تشكيل بنية الخطاب إذن ليس مسألة لغوية تقنية فحسب، بل هو مسألة فلسفية تتعلق بكيفية حضور الفكر في اللغة، وكيفية عبور اللغة إلى وعي الآخر، وبهذا يصبح التماسك النصي شرطاً ضرورياً لقيام الخطاب في بعديه المعرفي والوجودي، ومفتاحاً لفهم النصوص.

      ويتأكد بعد هذا أنّ دراسة التماسك النصي بين منطق اللغة وفلسفة الخطاب ليست بحثًا في آليات الربط فحسب، بل هي قراءة في كيفية تشكّل المعنى بوصفه فعلاً جدليًا يقع بين منطق البنية ومنطق الفكر، إنها محاولة لفهم كيف يُحافظ النص على وحدته رغم تعدد المقاصد، وكيف يتحول من بناء لغوي إلى كيان دلالي وفكري يعكس تماسك النص في صيغته اللغوية والفلسفية.