كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية
في عمق الذاكرة (الرسمية) من تاريخ وطني، سأكتب بلا تحفظ أن (منفوحة) كانت أقدم حارة رسمية في التاريخ (الرسمي) السعودي. على أطراف هذه الحارة بنى الإمام الموحد، راحلنا الكبير، عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل مكتبه الأول.
في هذه الحارة بالتحديد، بنى كل المؤسسين الأوائل بذرة حياتهم الأولى، ومن كل حدب وصوب من أرجاء هذا الوطن الكبير، وسأجزم بأنه لا توجد أسرة أو حاضرة أو قبيلة إلا وتحمل إرثا عابرا لمثل هذا الرمز الوطني من هذه الحروف الستة: منفوحة.
كيف أضعنا هذا الرمز الوطني؟ ولماذا تحولت هذه الذاكرة الوطنية بكل إرثها وتاريخها إلى أول حالة شغب وخوف في تاريخ المدينة وتاريخ كل المدن السعودية؟ لماذا تحولت هذه (المنفوحة) الأثيرة الغالية إلى جرح نازف في خاصرة الخارطة الأمنية؟ سأشكر (منفوحة) من القلب لتاريخها المجيد الذي توحدت في جنباته كل القبائل والأسر والأعراق ذات زمن، ثم سأشكرها مرة أخرى، لأنها بأحداثها الأخيرة أيقظت شعبا مكتملا، ثم أعادت توحيد شعوره ومشاعره وهو يسهر معها في لحظات مؤلمة تنم عن انتماء شعب. وإن لم نستيقظ على جرح منفوحة النازف، وإن لم نكسب هذه الجولة، فلن نكسب من بعدها جولة، ولن نصمد في مواجهة. سيبقى السؤال الشجاع الصريح: كيف أضعنا أول حارة رسمية في تاريخنا المعاصر؟ ولماذا وكيف ومتى؟ وإن لم نبحث كل هذه الأسئلة بشجاعة فلا تظنوا بعدها أننا سننتصر لأي قضية أو حارة أو مدينة.
كيف ضاعت من خارطتنا أولى حاراتنا (الرسمية)؟ وكيف تحولت هذه (المنفوحة) إلى أول جرح حقيقي في خاصرتنا الأمنية؟ نحن لم نضيّع حارة وإنما، وبسلوكنا ومنهجنا، فنحن في الطريق إلى إضاعة هوية ومستقبل. تبرهن (منفوحة) أولا أننا، وبكل العمد والإصرار والترصد، إنما نقبل ونستورد من هذا العالم الفسيح كل عمالة هابطة أمية، نستقبل ونستورد من الموارد البشرية كل الآلاف، وحتى الملايين التي لا تجد في أرصفة بلدانها فرصة للزحام أو المنافسة على فرصة عمل. ومن المخجل المثير للانتباه، وبالبرهان، أن ما يقرب من 60% من العمالة التي استقدمناها لهذا البلد لم تحصل في بلدانها الأصل إلا على شهادات التعليم الأساسي الابتدائي، ومثل هذه الأرقام جريمة أخلاقية في حق ثقافة (الشعب المستورد)، وخصوصا حين نعلم أن حجم العمالة النظامية وغير النظامية في هذا البلد يقارب عدد سكانه في الأصل.
نحن ثانيا، البلد الوحيد، على وجه هذه الأرض، الذي يتحول فيه الحلاق إلى معماري، مثلما يتحول المزارع إلى مهندس معماري! ولكم في المقابل، وبالبرهان، أن ربع العمالة الوافدة بالنظام إلى هذا الوطن لا تستطيع القراءة والكتابة بلغاتها الأصلية الأم، وهنا يبرز السؤال: قل لي من تستقدم، لا لكي أقول لك من أنت، بل لكي أرسم مستقبل الثقافة الاجتماعية لشعب كامل يستقدم كل من رفضتهم شعوبهم وبلدانهم الأصل.
وهنا أدعوكم، وبصراحة، أن ترتفعوا عن الفهم الخاطئ أن (منفوحة) مجرد (كانتون) إثيوبي، لأن هذا الفهم المغلوط لا يشرح الحقيقة. منفوحة هي رمز لـ(طبجية) أبها، مثلما هي (غليل) جدة، ومثلما هي أيضا (ثقبة) الخبر، وأيضا (خبيب) بريدة. منفوحة تبرهن أنها مستوطنة لعشرات الجنسيات ومستودع لثقافة الأمية الشاملة في خاصرة أمنية وثقافية رخوة. منفوحة تبرهن أنها صورة بالكربون من كل حي قديم أصيل في خارطة كل المدن السعودية التي هجرناها إلى أحياء الشمال في كل مدينة سعودية، لنتركها تماما مثل الدور الأرضي الذي يحدد لنا مشكل ثقافتنا ويتحكم في تشكيل أولادنا ويرسم لنا ما نأكل وما نشرب. منفوحة ثانيا، برهان وطني للإهمال ولتسويف القرارات السيادية الوطنية. ومنفوحة أيضا، وبكل صراحة وشجاعة، مَثَل حي ومثال تقريبي لإضاعة الجذر وشهادة الهوية الوطنية الشاملة. هي برهان لاستقدام كل الثقافات الهابطة التي لا تضيف شيئا إلى نسيجنا الاجتماعي والثقافي، بل تنخره من الوريد إلى الوريد.
ونهاية: عيب جدا جدا؛ أن تكشف لنا آخر أخبار منفوحة عن 300 مصنع خمور في الحارة الرسمية الأولى في تاريخ وطني: المملكة العربية السعودية.
المصدر: الوطن أون لاين