من الإصلاح الشكلي إلى التحول البنيوي: معادلة الدولة والمجتمع

آراء

خاص لـ هات بوست:

     يشهد الوطن العربي منذ عقود طويلة جدلًا متكرراً حول مسارات الإصلاح السياسي وحدود التحول الممكن في بنية الدولة والمجتمع. هذا الجدل لم يعد محصوراً في الشعارات أو البرامج المعلنة، بل بات يتصل بجوهر الفكرة السياسية ذاتها، وبالمنطق الذي يحكم العلاقة بين الدولة بوصفها إطاراً مؤسسياً منظماً، والمجتمع بوصفه فضاءً حياً للتفاعل والمشاركة والتنوع. وفي خضم هذا السياق، يبرز سؤال مركزي يتجاوز اللحظة الراهنة، ويتصل بالعمق الفلسفي لمسار التنمية السياسية: هل يمكن تحقيق مشاركة سياسية واسعة دون دولة قوية قادرة مؤسسياً؟ أم أن بناء الدولة الصلبة شرطاً سابقاً لا غنى عنه لأي تحول سياسي مستدام؟

     تكشف التجارب العربية المتراكمة أن الاكتفاء بإصلاحات شكلية، مهما بدت جريئة في ظاهرها، غالباً ما يعجز عن إحداث تحول بنيوي حقيقي في بنية السلطة أو في طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فالإصلاح الذي لا يستند إلى مؤسسات فاعلة، وقواعد واضحة، وثقافة سياسية ناضجة، يبقى هشاً وقابلاً للتراجع أو الانفجار عند أول اختبار. وفي المقابل، فإن توسيع المشاركة السياسية في ظل مؤسسات ضعيفة أو غير مكتملة البناء قد يقود إلى فوضى سياسية تُفرغ فكرة المشاركة من مضمونها، وتحوّلها إلى عامل عدم استقرار بدل أن تكون رافعة للتنمية السياسية.

     من هنا، تبرز الإشكالية المركزية التي يتعامل معها البحث العلمي المقارن في هذا المجال، والمتمثلة في كيفية تحقيق توازن دقيق بين بناء دولة قوية قادرة على فرض سيادة القانون وضبط المجال العام، وبين توسيع المشاركة السياسية بصورة تدريجية ومنظمة. هذا التوازن لا يمثل خياراً تكتيكياً أو مرحلة عابرة، بل يشكل شرطاً بنيوياً لاستدامة أي مسار إصلاحي، وضمان انتقاله من الإصلاح الشكلي إلى التحول العميق في بنية الدولة والمجتمع معاً. إن غياب هذا التوازن يفسر جانباً كبيراً من تعثر تجارب التحول السياسي في المنطقة، ويجعل من إعادة التفكير في معادلة الدولة والمجتمع ضرورة فكرية قبل أن تكون مطلباً سياسياً.

     لا يمكن مقاربة إشكالية الإصلاح السياسي في الوطن العربي بوصفها مسألة إجرائية أو تقنية معزولة عن السياق البنيوي الذي يحكم العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالتجربة التاريخية للمنطقة تكشف أن الإشكال لا يكمن في غياب محاولات الإصلاح، بقدر ما يكمن في طبيعة هذه المحاولات وحدودها الفعلية. وقد أدى التركيز المتكرر على إصلاحات شكلية إلى ترسيخ وهم التغيير، دون معالجة الجذور العميقة للاختلال السياسي والمؤسسي. في هذا الإطار، يفرض التحليل الجاد الانتقال من منطق الإجراءات إلى منطق البُنى، ومن تحسين الصورة إلى إعادة بناء العلاقة بين السلطة والمجتمع على أسس جديدة. إن هذا الانتقال لا يتحقق عبر القفز على الواقع أو استنساخ نماذج جاهزة، بل عبر تفكيك معادلة الدولة والمجتمع بوصفها الإطار الناظم لأي تحول سياسي مستدام. ومن هنا، تتشكل المحاور التالية بوصفها محاولة لفهم حدود الإصلاح الشكلي، وشروط التحول البنيوي، ومعنى التوازن الضروري بين قوة الدولة واتساع المشاركة.

     المحور الأول: الإصلاح الشكلي بوصفه إدارة للأزمة لا مسارًا للتحول

     يُعد الإصلاح الشكلي أحد أكثر السمات حضورًا في التجربة السياسية العربية، إذ غالبًا ما جاء بوصفه استجابة ظرفية لأزمات داخلية أو ضغوط خارجية، لا بوصفه خيارًا استراتيجيًا لإعادة بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع. في هذا السياق، يتم التركيز على تعديل القوانين أو استحداث مؤسسات جديدة أو توسيع هامش الخطاب السياسي، دون أن يرافق ذلك تغيير فعلي في منطق السلطة أو آليات صنع القرار. وهكذا يتحول الإصلاح إلى أداة لإدارة الأزمة بدل أن يكون مسارًا للتحول.

     تكمن خطورة الإصلاح الشكلي في أنه يخلق وهم التغيير، ويمنح انطباعًا بالحركة والتحديث، بينما تبقى البُنى العميقة المنتجة للاختلال السياسي على حالها. فالدولة، في هذه الحالة، لا تعيد تعريف دورها، بل تعيد إنتاجه بصيغ أكثر ليونة، فيما يُدفع المجتمع إلى المشاركة في مسارات محدودة التأثير، مما يراكم الإحباط ويضعف الثقة بالعمل العام. ومع مرور الوقت، يصبح الإصلاح الشكلي جزءًا من المشكلة، لأنه يفرغ مفهوم الإصلاح من مضمونه، ويحوّله إلى ممارسة شكلية تفتقر إلى المصداقية.

     كما أن هذا النمط من الإصلاح يعجز عن معالجة القضايا البنيوية المرتبطة بتوزيع السلطة، واستقلال المؤسسات، وسيادة القانون، وهي عناصر لا يمكن تجاوزها عبر إجراءات جزئية أو حلول تجميلية. لذلك، فإن استمرار التعويل على الإصلاح الشكلي يعمّق الفجوة بين الدولة والمجتمع، ويؤسس لحالة من الجمود السياسي المقنّع، الذي قد يبدو مستقرًا في الظاهر، لكنه يحمل في داخله قابلية عالية للانفجار عند أول اختبار حقيقي.

المحور الثاني: التحول البنيوي وإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع

     يمثل التحول البنيوي انتقالًا نوعيًا من منطق الإصلاح الجزئي إلى منطق إعادة البناء الشامل، حيث لا يُنظر إلى الدولة بوصفها جهازًا سلطويًا فقط، ولا إلى المجتمع بوصفه كتلة مطالبة، بل إلى العلاقة بينهما بوصفها معادلة متكاملة تقوم على التوازن والوظيفة المتبادلة. فالتحول البنيوي يبدأ بإعادة تعريف دور الدولة باعتبارها إطارًا مؤسسيًا ضامنًا للحقوق، ومنظمًا للمجال العام، وقادرًا على فرض سيادة القانون على الجميع دون استثناء.

في هذا السياق، لا يكون توسيع المشاركة السياسية هدفًا قائمًا بذاته، بل نتيجة طبيعية لبناء مؤسسات قوية وفاعلة. فالمشاركة، حين تُمارس في ظل مؤسسات هشة أو قواعد غير مستقرة، تتحول من قيمة ديمقراطية إلى مصدر فوضى وعدم استقرار. أما حين تقوم على بنية مؤسسية صلبة، فإنها تصبح رافعة للاستقرار والتنمية السياسية. من هنا، فإن التحول البنيوي يفترض مسارًا تدريجيًا ومنظمًا، يوازن بين متطلبات الانفتاح السياسي وحاجات الاستقرار المؤسسي.

     كما يتطلب هذا التحول إعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وهي ثقة لا تُفرض بالخطاب ولا تُستعاد بالوعود، بل تُبنى عبر الممارسة اليومية، والعدالة في تطبيق القانون، وشفافية القرار، ووضوح الأدوار. وفي غياب هذا الأساس، تبقى أي محاولة للتحديث السياسي سطحية ومؤقتة. لذلك، فإن التحول البنيوي ليس حدثًا لحظيًا، بل عملية تراكمية طويلة، تحتاج إلى إرادة سياسية واعية، ونخب قادرة على التفكير خارج الصندوق وبعيدا عن منطق المكاسب السريعة، ومجتمع مستعد لتحمل مسؤوليات المشاركة بقدر مطالبته بحقوقها.

المحور الثالث: معادلة التوازن بين الدولة القوية والمشاركة السياسية

     تشكل معادلة التوازن بين بناء دولة قوية قادرة مؤسسيًا، وبين توسيع المشاركة السياسية بصورة تدريجية ومنظمة، جوهر الإشكالية في مسار التنمية السياسية العربية. فالتجربة التاريخية تظهر أن اختلال هذا التوازن يقود إلى أحد مسارين متناقضين في الظاهر، لكنهما متشابهين في النتائج. الأول يتمثل في دولة قوية شكليًا، لكنها سلطوية، تحتكر القرار وتقصي المجتمع، ما ينتج استقرارًا ظاهريًا سرعان ما ينهار عند غياب قنوات المشاركة. والثاني يتمثل في انفتاح سياسي واسع في ظل مؤسسات ضعيفة، مما يقود إلى فوضى سياسية وتآكل سلطة الدولة.

     من هنا، لا يمكن النظر إلى قوة الدولة بوصفها نقيضًا للمشاركة، ولا إلى المشاركة بوصفها تهديدًا للدولة. فالدولة القوية ليست تلك التي تُقصي المجتمع، بل تلك القادرة على تنظيم مشاركته وضبطها ضمن قواعد واضحة. والمشاركة الفاعلة ليست تلك التي تتوسع بلا ضوابط، بل تلك التي تنمو بالتوازي مع نضج المؤسسات وقدرتها على الاستيعاب. هذا التوازن هو الشرط الحاسم للانتقال من الإصلاح الشكلي إلى التحول البنيوي.

     إن البحث العلمي المقارن يؤكد أن التنمية السياسية المستدامة لا تتحقق عبر القفز على المراحل، ولا عبر استنساخ نماذج جاهزة، بل عبر بناء مسار خاص بكل مجتمع، ينطلق من واقعه، ويستثمر في مؤسساته، ويعيد صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع على أساس الشراكة والمسؤولية المتبادلة. وبهذا المعنى، فإن معادلة الدولة والمجتمع ليست معادلة صراع صفري، بل معادلة توازن دقيق، يُفقد باختلاله معنى الإصلاح، ويُستعاد بتحقيقه أفق التحول الحقيقي.

المحور الرابع: مسؤولية البحث العلمي ودور المؤسسات ومراكز التفكير

     لا يكتمل النقاش حول الانتقال من الإصلاح الشكلي إلى التحول البنيوي دون التوقف عند مسؤولية البحث العلمي في تفكيك هذه الإشكالية، وتجاوز المقاربات الانطباعية أو الأيديولوجية التي كثيرًا ما هيمنت على تحليل الواقع السياسي العربي. فالبحث العلمي لا يُفترض به أن يكون مجرد توصيف للظواهر، بل أداة تحليل نقدياً قادرة على مساءلة المسلمات، وكشف الفجوة بين الخطاب والممارسة، وتقديم نماذج تفسيرية تساعد صناع القرار والمجتمع معًا على فهم تعقيدات العلاقة بين الدولة والمجتمع. وفي هذا السياق، تتحمل المؤسسات الأكاديمية ومراكز التفكير مسؤولية مزدوجة. فمن جهة، يقع على عاتقها إنتاج معرفة رصينة تنطلق من الواقع العربي، لا من نماذج مستوردة أو إسقاطات جاهزة، وتتعامل مع التحول السياسي بوصفه مساراً تراكمياً طويلاً، لا حدثاً لحظياً. ومن جهة أخرى، يُنتظر منها أن تقوم بدور الوسيط المعرفي بين الدولة والمجتمع، عبر ترجمة التحليل العلمي إلى سياسات عامة قابلة للنقاش والتطبيق، بدل الاكتفاء بالتقارير النظرية المعزولة عن دوائر التأثير. كما أن مراكز التفكير الجادة قادرة على كسر الثنائية الزائفة بين الأمن والحرية، وبين الاستقرار والمشاركة، عبر طرح مقاربات توازن بين قوة الدولة وفاعلية المجتمع. غير أن هذا الدور يظل مشروطاً باستقلالية هذه المؤسسات، وتحررها من منطق التوظيف السياسي أو التمويل المشروط الذي يحولها إلى أدوات تبرير لا أدوات تفكير. فغياب الاستقلالية المعرفية يُفرغ البحث من قيمته، ويحوّل المعرفة إلى خطاباً مكرراً لا يسهم في التحول البنيوي المنشود.

     إن الاستثمار الحقيقي في البحث العلمي ومراكز التفكير ليس ترفاً فكرياً، بل شرطاً أساسياً لإنتاج مسارات إصلاح واقعية ومستدامة. فبدون معرفة نقدية عميقة، يبقى الإصلاح حبيس الشعارات، وتبقى العلاقة بين الدولة والمجتمع أسيرة سوء الفهم المتبادل. ومن هنا، فإن مسؤولية البحث العلمي لا تقل أهمية عن مسؤولية الفاعلين السياسيين، لأنها تمثل البوصلة الفكرية التي تحدد اتجاه التحول، وتمنحه معنى وشرعية واستمرارية.

     وعليه، وبالمحصلة، يتضح أن الانتقال من الإصلاح الشكلي إلى التحول البنيوي ليس مسألة تقنية يمكن حسمها بإجراءات جزئية أو نصوص قانونية معزولة، بل هو مسار فكري ومؤسسي عميق يعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع من جذورها. فالإصلاح الذي لا يمس البُنى المنتجة للسلطة، ولا يعالج اختلال التوازن بين قوة الدولة واتساع المشاركة، يبقى إصلاحاً هشاً، قابلاً للتراجع أو الانفجار عند أول اختبار حقيقي. وفي المقابل، فإن التحول البنيوي لا يعني تفكيك الدولة أو إضعافها، بل يفترض بناء دولة قوية قادرة مؤسسياً، تستمد شرعيتها من قدرتها على التنظيم والاحتواء وضبط المجال العام، لا من الإقصاء أو الاحتكار.

     لقد أظهرت التجربة العربية أن غياب هذا التوازن قاد إما إلى سلطوية مستقرة ظاهرياً لكنها فاقدة للمرونة، أو إلى انفتاح سياسي غير منضبط أنتج فوضى وعدم استقرار. ومن هنا، فإن معادلة الدولة والمجتمع ليست معادلة صراع صفري، بل معادلة شراكة ومسؤولية متبادلة، تتطلب نضجاً مؤسسياً، ووعياً مجتمعياً، ومعرفة علمية قادرة على الإرشاد والنقد والتقويم. كما أن للبحث العلمي والمؤسسات الفكرية دوراً حاسماً في تحويل هذا الجدل من سجال أيديولوجي إلى نقاش عقلاني قائم على التحليل والفهم العميق.

     إن التحول البنيوي الحقيقي يبدأ حين يصبح الإصلاح فعلاً مؤسسياً مستداماً، لا مجرد وعد سياسي، وحين تُدار العلاقة بين الدولة والمجتمع بوصفها أساس الاستقرار والتنمية السياسية معاً، لا بوصفها معركة مؤجلة.