إعلامي وكاتب اقتصادي
بفارغ الصبر، ينتظر أهالي المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة موسم رمضان والحج ليكتسبوا منها، إما من خلال الأنشطة التجارية الخدماتية الموقتة أو الوظائف التي تطرحها مؤسسات الطوافة ومكاتب خدمات الحجاج وشركات القطاع الخاص، فضلاً عن أن الكثير من الأفراد يعملون لأنفسهم، وليس تحت مظلة أية مؤسسة حكومية أو أهلية، كما يحدث مع أصحاب السيارات الخاصة. والحج محرك اقتصادي كبير لقطاع الخدمات والتجزئة، ويدر دخلاً كبيراً للعاملين فيه.
وموسم الحج من أكثر المواسم التي تخلق فرص عمل موقتة، لكون الاستعداد له يأتي منذ وقت باكر، ويمتد العمل فيه إلى قرابة 90 يوماً، وعلى رغم زيادة عدد المؤسسات الخدمية وزيادة فرص العمل، إلا أنه للأسف الشديد بقي قطاع سوق العمل في موسم الحج غير منظم وفوضوي وعشوائي، ولا يستند إلى أي معايير مهنية، سواء في التوظيف أم حتى في اختيار العاملين، وأدت هذه العشوائية إلى انصراف الكثير من السعوديين من هذه الأعمال الموقتة، ودخول العمالة المقيمة والمخالفة لنظام الإقامة في كل تفاصيل أعمال الحج، ودفعت المؤسسات الخدمية إلى القبول بهؤلاء، لأنهم يعملون بمرتبات أقل وساعات أطول، كل هذه الوظائف الموقتة التي تُعلنها خلال موسم الحج وفوضى توظيف المقيمين والمخالفين، تحدث أمام أعين المسؤولين في وزارة العمل وإدارة الجوازات، فكيف بالله عليكم وافد يحمل إقامة نظامية، ويعمل تحت كفالة مؤسسة، يعمل في موسم الحج لمدة 60 أو 90 يوماً لدى مؤسسة خدمية أخرى؟ أليس هذا مخالفاً لنظام العمل والإقامة؟ من بين أكثر من 450 ألف وظيفة تطرح في موسم الحج، هل لدى وزارة العمل إحصائية بها أو حتى العاملين فيها، حتى وإن افترضنا أنها أعمال موقتة، فهي لا تختلف عن الوظائف الصيفية التي تطرح لشبان الجامعات والمعاهد والكليات، فهذه الوظائف هي للتدريب والتأهيل للشبان من الجنسين، إنما هي غائبة تماماً عن المعلومات بالنسبة إلى القوى العاملة. وتدريجياً، سيطر الوافدون على كل مجالات عمل الحج في المؤسسات الخدمية بمختلف أشكالها، وتحول السعودي إلى شخص يقتات من هؤلاء الخدمات اللوجستية التي يقدمها، وإذا ما استمرت سوق العمل في موسم الحج بهذا الحال، فإنه سينعكس سلباً في الأسعار وخلق سوق وبيئة عمل غير صالحة، وسبب ذلك غياب الرقابة الحكومية وعدم التنظيم، فضلاً عن صمت العديد من الجهات الحكومية في تنظيم هذا السوق الكبير، ومع ذلك تشتكي المؤسسات الأهلية عن عدم رغبة السعوديين في العمل خلال موسم الحج، هل يستطيع هؤلاء أن يخبرونا لماذا لا يريد السعودي أن يعمل في موسم الحج أم إنها إشاعة الهدف منها الإساءة إلى الأيدي العاملة السعودية أو لتغطية الفوضى التي تسير عليها هذه الجهات بمباركة المؤسسات الحكومية التي تركت هذه الشركات والمؤسسات ترتع وتلعب وتتصرف في سوق العمل وفق أهوائها وشروطها، وتعتبر أن ما توفره من فرص عمل هي من هبات خيرية أو منة منها على هؤلاء، وتستغل انفلات السوق بوجود عمالة رخيصة وغير نظامية في استغلالهم بساعات أطول ومرتبات أقل.
في التصريح الأخير للأمين العام للنقابة العامة للسيارات، وهي النقابة الوحيدة في السعودية، وتنضوي تحتها كل شركات نقل الحجاج، أعلن فشل النقابة في توظيف 25 ألف سائق حافلة لنقل الحجاج، ولم يذكر لنا الأسباب عن عدم الإقبال من السعوديين، وهذا يعني أن تغطية الاحتياج من السائقين سيتم من خلال الوافدين المقيمين في البلاد أو استقدامهم من الخارج، وغالباً ما يتم استقدامهم من مصر الشقيقة، ولعل أهم أسباب إحجام السعوديين عن هذه الوظيفة خلال موسم الحج هو أن أسلوب إدارة السائقين فوضوية من شركات النقل، هي تريد سائقين يعملون 24 ساعة من دون كلل أو ملل ومن دون جداول رحلات، ينام داخل الحافلة، ويأكل ويشرب فيها، ويستطيع أن يعيش على سندوتش وقارورة ماء، وبرواتب هزيلة ومن دون تأمين طبي، هذا يعني أن ما يستلمه من راتب شهرين تذهب في علاجه وأكله وشربه، ولهذا تلجأ هذه الشركات إلى استقدام عمالة من الخارج براتب 1000 إلى 2000 ريال خلال موسم الحج، مع منح علاوات هزيلة لكل رد زايد، ومعظم هؤلاء العمال السائقين لا يعرفون الطرقات، ويتسببون في الحوادث، نتيجة الإرهاق من السهر والتعب، وتحقق دخل كبير لشركات النقل، ومشكلة سعودة نقل الحافلات منذ أكثر من 20 عاماً، وهم يدرسون، ووزارة العمل والجوازات تقف متفرجة لمثل هذه الحالات وغير قادرة على إيجاد حل، وتصدق تصريحات المسؤولين أنه بالفعل لا يوجد سعوديون، فهل بالله عليكم يمكن الاستمرار بهذه الطريقة الفوضوية؟ ومن ثم نقول إن السعوديين لا يرغبون العمل في الحج؟ ما أوردته هو حال واحدة من بين حالات عدة لمؤسسات خدمية، كيف نصدق أن سائقي خط البلدة يعمل فيه سعوديون، وأن سائقي حافلات النقل الجماعي السعوديين وحافلات نقل المعلمات يعمل فيها سعوديون من دون ازعاج أو تذمر، وكيف لا يرغبون العمل موقتاً؟ قد يحقق لهؤلاء الناس دخلاً إضافياً يهربون منه، لا بد أن هناك مشكلة لا تود النقابة العامة للسيارات الإفصاح عنها، ولا ترغب وزارة العمل والجوازات الخوض فيها.
من الواضح أن المؤسسات الخدمية أعجبها العمل بالطريقة الفوضوية والعشوائية في غياب الرقابة الحكومية وضبطها، لهذا فالطرفان يعملان «بالبركة»، بينما في الحقيقة هي تضر سوق العمل في الحج وتلحق بها خسائر كبيرة، لأن 70 في المئة من العاملين فيها من العمالة الوافدة وغير النظامية، وهذا لا يعطي مؤشراً حقيقياً لفرص العمل المتاحة في موسم الحج وحاجاته الضرورية، ومن المهم أن تتجه الجهات الحكومية الرقابية المعنية بمتابعة أعمال الحج إلى إعطاء هذا الجانب أهمية، وإخراج أو إبعاد المؤسسة التي لا تستطيع توفير الشروط المطلوبة، لأن هذه الوظائف وبخاصة الموقتة هي من حق أبناء هذا الوطن، وأتفق أنه ليست كل الوظائف يستطيع السعوديون القيام بها، إنما من الظلم أن تكون النسبة 10 إلى 20 في المئة فقط المتاحة لأبناء الوطن، وبقية الكعكة يقتسمها الوافدون.
الأسبوع الماضي طرح الأمير خالد الفيصل أمير منطقة مكة المكرمة مقترحاً بأهمية إنشاء جامعة متخصصة في الحج والعمرة، تتولى شؤون الأبحاث والدراسات والتدريب والتأهيل، وهذا المقترح من المهم أن يجد الاهتمام من الجهات المعنية، لأن موسمي الحج والعمرة ليسا فقط حدثاً دينياً، بل هما مجموعة خدمات ضمن منظومة العمل الجماعي، لتحقيق الهدف، وهو إرضاء الحجاج والمعتمرين، كما إنه من المهم أيضاً أن يستفيد المواطنون والقطاعات الخدمية من عوائد العمرة والحج في ما يتعلق بخلق فرص العمل وتحسين مستوى الدخل والمعيشة، وهذا يتطلب إعادة النظر في أسلوب طرح الوظائف وبيئة العمل وتحسينه، وذلك من خلال تحديد جهة التوظيف وشروط العمل، والغرفة التجارية والصناعية في مكة المكرمة والمدينة المنورة يقع عليهما مسؤولية تنظيم ورش عمل أو مؤتمر سوق العمل في الحج والعمرة، لمناقشة المشكلات التي تواجهه والصعوبات، فالحج إذا كان حدثاً إسلامياً وركناً من أركان الإسلام، فإداراته تحتاج إلى مختصين وخبراء، لتحويله إلى صناعة خدماتية، يتقاسم أرباحها الجميع.
المصدر: صحيفة الحياة