كشفت الانفجارات التي دمرت بيروت وجه الدولة القبيح — والحقيقي — للعالم. تطاير أيّ وهمٍ عن دولةٍ فعّالة، تماماً مثلما تناثرت شظايا زجاج آلاف النوافذ المهشمة. وتبين للعالم بأسره ما كان يعلمه البعض منا ممن لم يخدعه الكلام عن الانتصارات الإلهية، والعهود القوية، بأن لبنان لطالما عانى الفشل المؤسساتي المزمن.
والحقيقة المؤلمة هي أنّه في مثل هذه الدول الفاشلة لا أحد يتوقع محاسبة المسؤولين عن هذا الفعل الإجرامي، فقد توقّفت المساءلة في لبنان منذ زمنٍ طويلٍ.
ولذلك، لم يكن إعراب العديد من اللبنانيين عن رغبتهم، على هامش زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون التضامنية، في إعادة الانتداب الفرنسي مفاجئًا. حيث إن مبادئ الحرية والمساواة والأخوّة الفرنسية ليست سوى حلمٍ بعيد المنال لكل لبنانيّ نزيه على وجه الأرض.
فمَن مِن اللبنانيين لا يريد التخلّص من قمع سلاح “حزب الله” واستيلائه على البلاد بأسرها؟ إلى متى سيبقى لبنان ناديًا خاصاً للأثرياء؟ حيث لا يستطيع سوى الأثرياء تحمّل تكاليف ليس الكماليات، وإنما متطلبات الحياة الأساسية، كالكهرباء على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع. إلى متى ستستمر الطبقة السياسية الفاسدة، التي شعارها “كل شخص لنفسه”، في إدارة شؤون البلاد وهم يخدمون مصالحهم فحسب؟
وحتى قبل كارثة الثلثاء، كان لبنان على وشك الانهيار بسبب مزيج تداعيات جائحة كورونا والفساد والقمع المسلح والاحتجاجات الضخمة في الشوارع والعقوبات التي تستهدف سوريا و”حزب الله”. ووفقًا لأستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز، ستيف هانكي، فقد حقق لبنان انجازا غير مسبوق وغير مرغوب فيه، حيث بات أول دولة في المنطقة يزيد معدل تضخم الأسعار فيه عن 50 في المئة خلال 30 يومًا متتاليًا، أو ما يسمى hyper inflation .
وهنا يأتي السؤال البديهي: من المُلام؟ يتعرّض رئيس الوزراء حسّان دياب وحكومته للإهانة غير المحقّة من المواطنين ووسائل الإعلام، فالواقع أنهم حكومة مقيدة الأيدي بسبب وجود “حزب الله”. وبالطبع، هذا لا يعني أنهم يبلون بلاءً حسنًا أو أنه يجب العفو عنهم لموافقتهم تحمل المسؤولية مع مثل هذه القيود.
إن كانت هناك مجموعة مسؤولة عن الفوضى في المدينة التي عُرفت يومًا بسويسرا الشرق، فهو “حزب الله” المدعوم من إيران. فقد اختطف عملاء الهلاك فرص لبنان وأحلامه وتطلعاته لفترةٍ طويلة. قرر الحزب منفرداً جرّ البلاد إلى الحروب أو إقحامها في شؤون الدول العربية الأُخرى. منح “حزب الله” العديد من الفرص لتسليم سلاحه (الذي لم يعد هناك حاجة له على أي حال منذ انسحاب إسرائيل عام 2000) واقتصار ممارساته على المستوى السياسي السلمي. كما أنه متهم باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري عام 2005 والانخراط في حرب غير ضرورية عام 2006 والاستيلاء على بيروت عام 2008 – هذا الاستيلاء الذي ربما انتهى بالمعنى المباشر، لكنه مستمر بشكلٍ غير علني.
دعم “حزب الله” بشّار الأسد في ذبح شعبه، كما دعم الميليشيات الحوثية في اليمن في هجومهم على المدنيين السعوديين. والآن نرى الحزب يقتل ببطءٍ أيّ بصيص أملٍ لبقاء لبنان دولةً فاعلة.
عرضت العديد من الدول العربية والغربية المساعدة هذا الأسبوع، ولكن في الحقيقة، سوف تبقى هذه المساعدة محدودة ما دام “حزب الله” يتخذ القرارات. لا يرغب أحدٌ بالتعامل مع عملاء إيران ولا المساهمة في إثراء النخبة السياسية الفاسدة. عندما ناشد أحد المتظاهرين يوم الخميس إيمانويل ماكرون أن لا يعطي أموالًا للسياسيين، رد الرئيس الفرنسي بأنه أتى لمساعدة الشعب اللبناني فقط.
إذاً ما الذي يمكن فعله؟ في الواقع ليس أمام المواطنين اللبنانيين النزهاء الكثير من الخيارات لمساعدة أنفسهم. يمكنهم أن يحتجّوا لأعوامٍ من دون كسر قبضة “حزب الله” الخبيثة أو إنهاء عقودٍ من الحكم السيئ والفاسد.
لا بدّ من عزل “حزب الله”، أصل هذا السرطان، واستهدافه واستئصاله. قد يكون حكم المحكمة الدوليّة في قضية اغتيال الحريري بدايةً لهذه العملية، تليه “خطة مارشال” الدولية للبنان، والمشروطة بالقضاء على هذه الجماعة الإرهابية.
لكن دعونا نختم بإيجابية. إن لم تدفع هذه الكارثة باللبنانيين المحاصرين للتخلص من قياداتهم اللعينة، فلا خلاص لهم منها. إن تدفّق المساعدات من دولٍ مثل فرنسا والسعودية والإمارات دليلٌ أنّ أصدقاء لبنان لم يتخلوا عنه.
على اللبنانيين ألّا يستسلموا.