كاتبة سعودية مقيمة في دبي
نشرت جريدة «الشرق الأوسط» قصة «المراهق أيوب»، التي غدت مشهداً مألوفاً وحاضراً بقوة في الواقع العربي، الذي يتخبط بين شعارات المستقبل الواعدة بالحرية والعدالة والمساواة والرغبة في التخلص من الطغيان، وبين أبطال هذا المشهد وهم «داعش» و «النصرة» و «القاعدة»، الذين يقودون إلى الماضي، لكنهم استطاعوا أن يسيطروا على بعض الشبان بشعارات إسلامية براقة، فاختطفوا الأطفال والمراهقين والشبان من بين أيدي أهليهم.
أكثر ما لفت نظري في هذه القصة التي نشرتها هانا لوسيندا سميث بعنوان: (من ليبيا إلى سورية… جيل من المراهقين تجندهم «داعش»)، هي عبارة «جيل المراهقين المتعطش للقتال». لاحظوا متعطش للقتال، بل ومعادٍ لشعارات الحرية والعدالة والمساواة والديموقراطية، التي هي شعارات الحياة. الشبان صاروا يقدسون الموت لا للحياة.
القصة تقول إن الأخ الأكبر محمد الليبي الذي قاتل مع الثوار لأجل سقوط القذافي صار أنموذجاً فاتناً لأخيه المراهق الصغير أيوب (15 سنة)، فراح يردد: «أريد أن أصبح مثلك وأن أقاتل»، فوقع بين يدي المنظّرين للجهاد، الذي يجمعون صغار السن ويستخرجون لهم أوراقاً ثبوتية وجوازات سفر وتذاكر طيران ويرسلونهم إلى سورية.
محمد تلقى اتصالاً من والدته في كانون الأول (ديسمبر)، وتقول إن الصغير أيوب اتصل بها وهو يركب الطائرة، معلماً إياها أنه خرج للقتال في سورية. فركب أخوه محمد الطائرة في اليوم التالي ليفتش عنه في الحدود السورية – التركية القريبة من مناطق القتال، واكتشف أنه لم ينضم إلى «الجيش الحر»، بل إلى «داعش». ضاع بين المعلومات المتضاربة والطامعين بسرقة ماله، لم يجد أيوب على الأرض، لكن وجده في العالم الافتراضي «تويتر»، «فيسبوك»، و «أنستغرام»، ووجد مقطعاً مصوراً لطفل نحيل قصير يبدو وكأن عمره 13 سنة، هو أيوب الذي ظهر في الصورة مرتدياً جلباباً كاكياً وسترة مموهة ويحمل بيده «كلاشنيكوف»، وحين حاول أخوه أن يتواصل معه لم يرد عليه إلا بكلمات من التهديد، حشتها «داعش» في دماغه «لست مسلماً صالحاً، وإن وجدتك قتلتك»!
محمد عاد إلى ليبيا لا يلوم إلا نفسه، فهو يقول إنهم هم الثوار الذين قاموا بالثورة ولم يكملوها، فتركوا أطفالهم وعائلاتهم نهباً للجماعات والعصابات الإسلامية التي سرقت أبناءهم وحولتهم إلى بندقيات، ولن يتورعوا عن قتل إخوتهم أيضاً، لأنهم آمنوا بدين أخرج الناس كلهم من الإسلام، ولم يُبقوا سوى جماعتهم الصغيرة فيه.
نحن اليوم نتفق على تجريم هؤلاء قانونياً ومحاربتهم، بمن فيهم هؤلاء الأطفال والشبان المختطَفون عقلاً وجسداً، لكننا في المقابل نتسامح مع الأدبيات التي زرعت في نفوسهم كما وصف التقرير «التعطش للقتال» وتصفية الخصم. كل ما قدمنا لهؤلاء الشبان اليوم أننا أفقرنا حياتهم من التعليم العصري الذي يربطهم بالمستقبل وبالتنوير، وحرمناهم من ممارسة الهوايات التي تبني عقولهم وأجسادهم، ومن الحرية التي تحترم استقلاليتهم وعقولهم وتفكيرهم، وتحثهم على البحث والإبداع، فما الذي بقي لهم؟
حين تجف الحياة إلى هذا الحد فإنها تصبح مرعى خصباً ينمو فيه عالم افتراضي. مثال خيالي لا يوجد إلا في خطابات هذه الجماعات التي تحشو عقل الشبان بأن الحقيقة المطلقة لديها هي، وهي من يعرف كيف توصلهم إلى الجنة بأقصر الطرق وعبر شواهد من التاريخ الإسلامي الذي عاشه الأوائل، وما عليهم سوى أن ينضموا إليهم وينتقوا أسماء مشابهة لهذا التاريخ، مثل أبو طلحة أو الفاروق أو أبو بكر، وما أن يغير الشاب اسمه ويحمل سلاحاً ثم يموت سيجد الصحابة كلهم في انتظاره، وسيحصل على حصة من حوريات العين ويعيش بينهن ملكاً.
في «معرض الكتاب» المقام حالياً في الرياض ظهر شبان متعطشون أيضاً للجهاد، اقتحموا المعرض – بحسب قولهم – كي يفتشوا عن كتب الإلحاد والانحراف العقائدي، ومنع اختلاط النساء بالرجال. «معرض الكتاب» سوق كبيرة للكتب، تنظمه وزارة كبيرة، هي وزارة الإعلام، وتحرسه عشرات الجهات الأمنية، ومقام في بلد مثل السعودية ولا أحد يشك في حرصها على الإسلام، وترتاده عائلات لم تعرف طوال حياتها سوى منهج المحافظة والتقليد، وعلى رغم هذا جاء الشبان المحتسبون يفتشون عليهم.
هؤلاء أيضاً مُختطَفون ولا يعبّرون عن أنفسهم، بل عن آخرين حشوا أدمغتهم بأدبيات أفقرت إحساسهم بالحياة وبالحضارة وبالتمدن التي هي مفاهيم عصرهم، وحبستهم في ماضٍ متواضع ومحدود، لكنه غني بحكايات الحماسة، مثل حكايات «علي بابا» و «روبن هود»، يريدون أن يكونوا أبطالاً، يسرقون المال من الأغنياء ويوزعونه على الفقراء، في وقت لم يعد الناس فيه يعيشون في القلاع ولا يعيش اللصوص في الكهوف.
المصدر: الحياة