كاتب سعودي
على وقع صوت أم فجعت بابنها الذي يمم وجهه شطر سوريا، هبت موجة من السجال في المجتمع السعودي. دقيقة ونصف الدقيقة من مذيع سعودي حولت بياض الصفحات إلى سواد، ولولا أن ما قاله في تلك اللحظات اليسيرة صادم ومهم وقاس على البعض لما كان للحدث السوري وانعكاسه على الخليج أن يكونا موضع نقاش. تورط أولئك الدعاة في التهييج والتحريض ليس خافيا على كل من استمع إليهم، والمقاطع التي عرضتْها لهم قناة «MBC» واضحة وبالغة الدلالة، غير أنها ليست الإدانات الأخيرة، ثمة عبارات مدفونة في كتيباتهم ومطوياتهم، ولو أن مجموعة من المتخصصين أفرغوا وقتهم لنبشها ورصدها لكانت أدلة دامغة. يكفي أن أحدهم، وفي كتاب له طبعه بعد «الربيع العربي»، قال إن الاستعانة بالقوات الأجنبية مستساغ في حال ثورة الشعوب ضد الحكام حين تكون القضية عادلة. وهو نفسه الذي وقف ضد رأي هيئة كبار العلماء حول الاستعانة بالقوات الأميركية إبان حرب الخليج عام 1991. لكن، بعبارته الأخيرة يقصد استعانة الشعوب لإسقاط الحكام الذين كرر في الكتاب نفسه أنهم مخلوعون، وأنهم يفتقرون إلى المشروعية.
حين ينفي داعية محرض من دعاة الموت أي تورط له في الدعوة إلى الجهاد مباشرة، فإنه وعلى فرض صحة هذا القول إلا أن التحريض ليس شرطا أن يكون ضمن مخطط عسكري أو ضمن شرح لصنع سلاح، ولو قرأنا إرث سيد قطب في الحاكمية وتجهيل المجتمعات وعلاقة الفكر بالدم والنفير لنصرة الأمة – وأخص بذلك كتابه «معالم في الطريق»، فسنجد أن معظم التهييج والتحريض لا يأتي بشكل مباشر على ما يفعل أيمن الظواهري، لكن في الواقع يؤثر أسلوب قطب الخطير والمدمر في القارئ، ذلك أنه يلعب على المشاعر التربوية والتطقيم الحركي والتجنيد الحزبي، من هنا يكون التحريض القطبي أشرس، وإن لم يكن أوضح. بعض الدعاة العائمين بخطاباتهم أخطر من العرعور وأيمن الظواهري، بسبب اختزالهم التحريض ضمن ومضات وشذرات وتغريدات، يتلقفها أتباعهم ويطبقونها في خنادق الموت.
من المحزن أن يقتل أكثر من خمسة وعشرين سعوديا خلال ساعات في مناطق النزاع بسوريا، وأن يكون هذا ضمن تحريض من قبل المنَعَّمين في العيش الرغيد، والدعاة من سماسرة العقار، وأيقونات التجارة والأبراج والأسهم، يدعون الناس إلى الموت فقط من أجل إنضاج مشروعهم الحزبي، الذي يتمنون أن يكتب له النجاح في بلادهم.
لو أن قضية سوريا تركت للسوريين، من دون تدخل الأصوليين لكان حال الشعب السوري الآن أفضل، وآية ذلك أن وليد المعلم في مؤتمر «جنيف2» استغل موضوع «الإرهاب» والجماعات المتناحرة لتحسين شروط التفاوض والتشويش على الطرف المعارض، هذا الاستغلال لم يكن ليتم للنظام بنجاح لولا أن من نَفَر إلى سوريا أساء إلى الجماعات السورية الأصلية التي تقاتل دفاعا عن النفس.
في 23 أبريل (نيسان) 2013، التقى خادم الحرمين الملك عبد الله بن عبد العزيز أعضاء هيئة كبار العلماء وجمعا من الفقهاء الكبار في المملكة، وكان سباقا في تحذيره ضد التحريض، حين أشار إلى أناس يغررون بالشباب وبصغار السن وبالأطفال ويلقون بهم في أتون الأفكار التكفيرية والتحريضية والأعمال الإرهابية، ثم دعا الملك إلى إنزال أقصى عقوبة بحق من يغرر بالأطفال، وقال: «هم غرروا بأطفالنا، فمنهم من قتل ومنهم من حبس، كفانا الله شرهم». كان هذا الكلام الحكيم من الملك الصالح قبل قرابة السنة من اشتعال النقاش الفكري والإعلامي بالسعودية حول المحرضين. من هنا، تكون المسؤولية الآن على وزارة الشؤون الإسلامية ووزارة التربية والتعليم، أن يكثفا اجتماعيا الجهود الاستثنائية من أجل تجفيف منابع التحريض وضرب اليد التي تحاول استفزاز المجتمع عبر إدخال شبابه في نيران حرب، ببلدٍ أهله أدرى بشعابه.
في 3 فبراير (شباط) الحالي، صدر أمر ملكي سعودي، نص على عقوبات ضد المحرضين على الإرهاب، وجاء في نصه: «يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، ولا تزيد على عشرين سنة، كل من ارتكب – كائنا من كان – أيا من الأفعال الآتية:
1- المشاركة في أعمال قتالية خارج المملكة، بأي صورة كانت محمولة على التوصيف المشار إليه في ديباجة هذا الأمر.
2- الانتماء إلى التيارات أو الجماعات – وما في حكمها – الدينية أو الفكرية المتطرفة، أو المصنفة كمنظمات إرهابية داخليا أو إقليميا أو دوليا، أو تأييدها أو تبني فكرها أو منهجها بأي صورة كانت، أو الإفصاح عن التعاطف معها بأي وسيلة كانت، أو تقديم أي من أشكال الدعم المادي أو المعنوي لها، أو التحريض على شيء من ذلك أو التشجيع عليه أو الترويج له بالقول أو الكتابة بأي طريقة».
هذا الأمر حاسم حازم لحفظ البلاد والعباد.
يحكى أن مسنا في قرية كان يُسأَل عن توقعاته المناخية للبلدة، فيعطيهم إجابة من دون جواب، كان يقول: ربما يكون بردا، أو تأتي هبة من نسيم، وربما عصفت بنا الريح، وقد تلسعنا ألسنة الشمس اللاهبة. وفي المساء، أيا كان حال المناخ يكون قد توقعه! كذلك الحال في بعض من يقولون الرأي ونقيضه حتى يكون لديهم «خط التبرير» في حال وقع الفأس بالرأس، لكن العبرة بأصول الخطاب وبأدبيات المنهج وبالمشروع السياسي الذي ينتهج. وخاصة أن شيخهم، وأعني به يوسف القرضاوي، يشن الآن هجوما على الإمارات والسعودية، الدولتين اللتين تدعمان الشعوب لا الأحزاب، وهذا ما أشعرهم بالأسى.
إن هذه المرحلة ليست لهم، فهم يشعرون بالحصار والخوف، لأنها ليسوا دعاة حياة، فشيخهم حسن البنا هو الذي استخدم عبارتهم المحببة: «صناعة الموت».
المصدر: الشرق الأوسط