خاص لـ هات بوست:
إن اللغة في جوهرها لا تعني مجرد نظام من العلامات، بل هي في الأساس نشاط تواصلي يقوم على استعمال العلامة اللغوية لإنجاز أفعال تواصلية، لأن وظيفتها الأساسية هي: (التواصل)، ومن ثم حظيت باهتمام كبير منذ عقود طويلة، ظهرت خلالها مدارس عديدة، ومن أحدثها المدرسة (النصية)، هذه المدرسة الحديثة التي أحدثت نقلة عملاقة تتجلى في تجاوزها التحليلات اللغوية للنظم المعهودة التي ألفتها المدارس اللغوية القديمة.
لقد انكب اهتمام تلك المدارس على (الجملة) بوصفها أعلى وحدة لغوية محورية انطلاقا من أن الجملة وحدة نظرية نظامية إطارها اللغة، تنطلق من كفاءة لغوية. وتمثل هذه المدارس اتجاها في اللسانيات هو: (لسانيات الجملة)، كما حظيت الجملة باهتمام اللسانيين فلا تخلو نظرية لسانية بنيوية أو غير بنيوية من تصور محدد لتحليل الجملة. وليست التحليلات الصوتية والصرفية التي قامت بها اللسانيات عموماً واللسانيات البنيوية الأميركية خصوصا، والنتائج التي توصلت إليها سوى مدخل لدراسة بنية الجملة. فالجمل ليست ألفاظاً وضعت جنباً إلى جنب اعتباطياً، ولكنها تخضع في كل الألسن الطبيعية، لمجموعة من القيود والقواعد التي تضبط مختلف العلاقات المتحكمة في تجاور مواقع وحداتها المكونة.
إن بناء الجملة ليس مجرد وضع كلمة إلى جانب أخرى، ولكنه بناء مقيد ومضبوط يقتضي أن يحصل بين مكونات الجملة نوع من الانسجام. فلا يكفي أن يجاور أي فعل اسماً ما، أو اسمين لنحصل على جملة صحيحة تركيبياً (ودلالياً)، ويعرف بلومفيلد (Bloomfield . L) الجملة بأنها “الشكل اللغوي المستقل الذي لا يتضمنه تركيب آخر أكبر منه.” (1)
كما تتضمن كل فئة من الصيغ اللغوية وحدات لها سمات صورية تجعلها تتصرف تركيبياً بطريقة محددة؛ “إن معنى صيغة مركبة ما يتعلق في جزء منه بانتقاء الصيغ المكونة لها. فالفعل (أكل) يحتاج إلى مركبين اسميين يليانه في المحور السياقي، ومن ثم ينبغي أن يحصل بين وحدات الجملة نوع من الملاءمة النحوية، فبعض الصيغ تدخل على صيغ معينة ولا تقبل أخرى. فأداة التعريف (الـ) وحروف الجر مثلاً تسبق الأسماء ولا تسبق الأفعال. وأدوات مثل: (أن ولن وكي) تسبق فقط الأفعال الدالة على الزمن الحاضر أو المستقبل فتنصبها، وهكذا مما هو كثير في الألسن الطبيعية. وكل لسان له قواعده التي تضبط الإمكانات المتاحة لتجاور مواقع الوحدات بعضها مع بعض لبناء تراكيب صحيحة ومقبولة (2).
وتعد النقلة التي حصلت في الدرس اللساني المعاصر من “نحو الجملة” إلى “نحو النص” موضوعا مهما شغل الباحثين والدارسين، وقد أدى هذا التطور الحاصل في الدراسات اللسانية إلى أن تصبح مشكلات تحليل النصوص وأهدافها موضوعا لدراسة متكاملة شكلت بصورة حتمية موضوعا جديدا سمي بــ “لسانيات النص” (علم النص أو لسانيات الخطاب، أو نحو النص…)، كونها الاتجاه الذي جعل النص محوراً للتحليل اللساني، فهو يبدأ من النص وينتهي به، وقد تجاوزت المدرسة النصية الحديثة ذلك لتصل إلى وحدة كبرى هي النص. والنص هو وحدة إجرائية استعمالية إطارها الكلام، تنطلق من إنجاز لغوي أو كفاءة تواصلية. (3)
لقد ازداد البحث والاهتمام بالدراسات النصية، لأنها ظهرت لتسد ذلك الشعور أو الفراغ الذي أحدثته (اللسانيات الجُملية) بمختلف توجهاتها (البنيوية، والتوزيعية، والسلوكية، والوظيفية، والتوليدية والتحويلية…)؛ حيث إن هذه الأخيرة لم تعد كافية لكل مسائل الوصف اللغوي والتداول والسياق الثقافي العام، ذلك أن اللسانيات النصية لم تقصِ اللسانيات الجُملية من وصف الظاهرة اللغوية؛ بل توكأت عليها، لتتخذ هدفا رئيسا ترمي الوصول إليه، وهو الوصف حيث الدلالة والتحليل والدراسة اللغوية للأبنية النصية، وتحليل المظاهر المتنوعة لأشكال التواصل النصي.(4)
فلا مناص أن النصوص في القدم لم تُدرس بوصفها علماً مستقلاً، بل كانت تدرس ضمن الدراسات البلاغية والنحوية، بحجة أن النص ما هو إلا جملة أو مجموعة من الجمل المتتالية، وأن الجملة هي المكون الأساس للنص، ولهذا ظل الاهتمام بالجملة ردحا من الزمن بوصفها أكبر وحدة قابلة للوصف النحوي أو التحليل اللساني إلى أن ظهرت مؤشرات علم جديد يدرس النص بوصفه كياناً موحداً، وذلك عندما دعا الباحث زليخ هاريس (Harris. Z) إلى الانتقال من تحليل الجملة إلى تحليل الخطاب المترابط سواء في حالة النطق أو الكتابة، كما دعا إلى تجاوز مشكلتين وقعت فيهما الدراسات اللغوية الوصفية والسلوكية وهما:
1. قصر الدراسة على الجمل والعلاقات فيما بين أجزاء الجملة الواحدة.
2. الفصل بين اللغة والموقف الاجتماعي مما يحول دون الفهم الصحيح.
ومن -هنا- بدأ بعض اللسانيين يتنبهون إلى المشكلتين اللتين أثارهما (هاريس)، وإلى أهمية تجاوز الدراسة اللغوية مستوى الجملة إلى مستوى النص، والربط بين اللغة والموقف الاجتماعي مشكلين بذلك اتجاها لسانيا جديدًا أخذت ملامحه ومناهجه في التبلور منذ منتصف الستينات تقريبا، هذا الاتجاه أو العلم الذي عرف بمسميات عدة منها: لسانيات النص، واللسانيات النصية، ونحو النص، وعلم قواعد النص، أو علم النص أو علم اللغة النصي. (5)
لذا فاللسانيات النصية تتفق حول ضرورة مجاوزة “الجملة” في التحليل البلاغي إلى فضاء أرحب وأوسع، وأخصب في محاورة العمل الفني (الفضاء النصي)، لأن الدراسات اللسانية النصية تجاوزت حدود البنية اللغوية الصغرى-الجملة- إلى بنية لغوية أكبر منها في التحليل هي (النص)؛ إذ عد النص الصورة الكاملة والأخيرة المتماسكة التي عن طريقها يتواصل أفراد المجموعة اللغوية، ذلك أن (النص) يشكل مفهوما مركزيا في الدراسات اللسانية المعاصرة، فهو ليس بناء لغويا فحسب، وإنما يدخل ذلك البناء في سياق تفاعلي بين مخاطِب ومخاطَب.
لأجل هذا ربما كان من العسير تحديد ماهية النص وأبعاده الاصطلاحية، وذلك لتنوع الاتجاهات وتعدد الرؤى، إضافة إلى كونه شحنة انفعالية محكومة بضوابط لغوية وقيم أخلاقية ومرجعيات ثقافية وخصائص اجتماعية. غير أن بعض المنظرين للمعرفة الأدبية واللغوية والفلسفية زهدوا في صنع تعريف ظاهر للنص، حتى اتسع مفهومه وتشعب حقله تشعبا تجاوز أي حقل معرفي آخر، فأصبح النص كيانا منسوجا من الملصقات والإضافات، إنه جسد من علقات مختلفة، بل إنه لعبة متفتحة ومنغلقة في الوقت ذاته .(6)
……..
(1) L. Bloomfield. Le langage, traduit en français par J. Grazio, introduction de Fr. François, Paris, Payot, 1972. p.161
(2) ينظر: غلفان، مصطفى، اللسانيات البنيوية منهجيات واتجاهات، دار الكتاب الجديدة المتحدة، طرابلس، ليبيا، ط1، 2013، ص400.
(3) ينظر: لحلوحي، فهيمة، علم النص، تحريات في دلالة النص وتداوله، مجلة بسكرة، تصدر عن جامعة محمد خيضر بسكرة، الجزائر، عدد 10/11، جانفي/جوان 2012، ص208.
(4) ينظر: قويدر، بحري، اللسانيات النصية قراءة في الأنموذج والمرتكزات، مجلة دراسات معاصرة، تصدر عن جامعة المركز الجامعي تيسمسيلت، الجزائر، المجلد5، العدد1، 2021، ص162.
(5) ينظر: علاوي، العيد، التماسك النحوي أشكاله والياته “دراسة تطبيقية لنماذج من شعر محمد العيد آل خليفة”، مجلة قراءات، تصدر عن جامعة بسكرة، عدد 121، ص 120.
(6)ينظر: حياة لصحف، مصطلحات عربية في نقد ما بعد البنيوية، منشورات المجلس الأعلى للغة العربية، الجزائر، دط، 2013، ص 32-33.