تنطلق مساء اليوم فعاليات الدورة الثانية لمهرجان قصر الحصن الذي يستمر حتى الأول من الشهر المقبل، مشتملاً على العديد من الفعاليات والأنشطة ذات الطابع الخاص بإبراز الثقافة الإماراتية التي تراكمت مفرداتها على مدى قرون، لتعبر عن خبرة إنسانية تمتد لقرون في تعامل إنسان هذا المكان مع بيئته وما تركته من آثار عن تصوره للعالم وفكرته عن نفسه.
وبهذه المناسبة، نظمت إدارة المهرجان زيارة خاصة بالإعلاميين لموقع المهرجان مساء أمس الأول تضمنت برنامجاً متكاملاً، شمل تقريباً أغلب المفردات التي يتكون منها المهرجان ببيئاته الأربع: أبوظبي، والصحراء، والواحة، ثم البحر، فضلا عن زيارة قصيرة للمجمع الثقافي ومتابعة مشاهد من العرض الافتتاحي «كافاليا في قصر الحصن» الذي يعرض كاملا مساء في الثامنة من مساء اليوم.
الجمل
ما إن يدخل المرء إلى المكان حتى يشعر بأنه قد أصبح بعيداً جسداً وروحاً عن مدينة أبوظبي وصخب الشوارع المجاورة للحصن، إذ تلفت الانتباه حظيرة الجمال تلك حيث شاب يداعب جملاً أو يحاكيه بطريقة ما تعبّر عن ألفة وحميمية بين كائنين ضمتهما البيئة الواحدة، هذه البيئة التي واجهها أجدادهما في هذا المكان بكل قسوتها وعجرفتها بتلك الألفة الخاصة. كان الشاب بلباسه التقليدي يقف على أطراف أصابع قدميه ويمدّ يديه إلى أعلى ما أمكنه ذلك، فيمّد الجمل عنقه إلى الأعلى في الاتجاه نفسه كما لو أنهما يلعبان لعبة تخصهما.
هذه الألفة لا تقتصر على العلاقة بالجمال في البيئة الصحراوية، بل تمتد إلى البيئات الأخرى. وبالمجمل، فإن الأنشطة اليومية التي كان يمارسها الإنسان هنا كانت تعبيراً عن ممارسته الاجتماعية في هذه البيئات جميعاً التي تفاعل معها ومع عناصرها فوظفها من أجل استمراره هو فيها ومن أجل تحسينها وعدم إيذائها، واستمرار نسلها في المكان، تماماً مثلما يفعل هو، وكأن المرء هنا كانت صلته بالمكان ومفرداته نابعة من علاقة غريزية، ومن إحساس متبادل بينهما، أي كما لو أن أحدهما مانح للآخر وليس بمتطفل عليه.
المرأة الإماراتية تصنع مجتمعاً
في البيئات ذات الطابع شبه الحضري وشبه المديني، حال مدينة أبوظبي أو بيئة الواحة يجد المرء نفسه أمام فاعلية اجتماعية أكبر للمرأة من الرجل، إنها المسؤولة عن بناء تلك النواة الأساسية التي سوف تفرز للمجتمع الإماراتي كل احتياجاته المادية والإنسانية وتؤسس لمستقبل استمراره. من هنا ليس غريباً أن تكون المرأة في هذا المكان هي التي اكتشفت تلك الأدوات واللوازم وصنعتها من بيئتها المحيطة بها: البُسط وصبغ الثياب آنيات مجدولة من سعف النخل توحي أشكالها بأن البعض منها للمائدة وأخرى لحفظ الخبز والأكل وأخرى للخزين.
صانعو الحبال.. محبّو النخلات
أما أولئك الرجال صانعو الحبال من ليف جذوع النخل، فإنهم يعدونها من أجل تسلق النخلات العاليات، كي يهزّوا تلك العناقيد الهائلة فتساقط رطبا، أيضا يصنعون بسطا من السعف الناشف. فنسأل لماذا الحبال للتسلق إذا كان بإمكان شاب أن يصعد إلى أعلى مستعيناً بتلك النتوءات في الجذع؟ فيأتي الجواب: «كي نحفظ للنخلة كرامتها فلا يؤذيها الصعود كثر أو قل». ويضيف محمد عبدالله سعيد: «النخلة تعطيك كل ما تحتاج إليه، البيت وكل مكوناته والطعام الذي يغذي والفيء الذي يجعلك تستريح، لذلك نحفظ لها كرامتها فلا نؤذيها».
القهوة العربية.. مزاج ضيافة وغزل
الرجال أيضاً هم صانعو القهوة العربية وفقاً لتقاليدها الإماراتية، وهم المضيافون الذين ينتظرون القدوم إلى جناحهم، حيث القهوة ليست لحاجة اجتماعية فحسب، بل لحاجة فردية أيضاً، إذ هي مخلوطة بمطحون الزنجبيل تُشرب لتكون مفيدة في أمر ما، في ما إذا جرى خلطها بالقرفة تكون مفيدة لأمر آخر، هذا السلوك تجري ممارسته في البيئة البدوية لقتل روائح الفم وللتعبير عن مشاعر تجاه الآخرين، تلك المشاعر التي غالبا ما تكون مليئة بالمحبة، وإذ يتذوقها المرء فهي خفيفة على القلب والمعدة معاً، ومرارتها طيبة تجعل الريق رطباً وحلواً. ربما يكون مناسباً هنا أن نتذكر تلك الأبيات التي صاغها المؤسس المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وهو يتغزل في القهوة العربية وصاحبتها:
«يا محتـوي حَسْـنات الخْـصــــال
أطــباعْ واسلــوكٍ لطيفــــة
قـــم ســـــــوّ لي م البن فنــيـال
وضيف الذي تبغــي تضيفَه
يا نـــــــور عينــي مـــالك أمـثـال
ولا لي أنا دونــــــك نكيفــه
رويـاك تفــــــرج ضيقــــة البـــال
وبسمـــة ثنايـاك الخفيفــــة»
على أهبة الغوص
في البيئة البحرية، فإن صانعي القوارب المشغولين بصنعتهم وكأنك لست هنا، هم أولئك الرجال الجادّون الذين ينسجون الشراع وكأن العزم قد انعقد على خوض البحر بعد لحظات. إنهم يستعدون ويتأهبون لرحلة غوص. هكذا بدا الأمر، في حين كان رجلان قد دقّا أوتاداً خشبية في الأرض الرملية على مقربة من بحيرة تشي بالبحر، وقد ربطت رؤوس هذه الأوتاد بحبال فيأخذ الشكل العام لهذه الحبال هيئة شراع. ثم جاء فتى يحمل قماشاً أبيض جافاً وقاسياً وخشناً كما يبدو ملمسه للنظر، فيبدأ الرجلان صاحبا الأوتاد بخياطة الشراع بدءاً من طرفين متجاورين من القماش. لون الخيط من لون القماش، إنما بدت الإبرة التي يُحاك بها أصغر مما هو متوقع، والمسافة بين كل ثقب تُحدثه الإبرة في القماش والثقب الذي يليه لا يمكن للمرء أن يراها تماماً من فرط ما الواحدة منها لصيقة جداً بالأخرى.
مواقع متنوعة
أما المطارح الأخرى من موقع المهرجان فكان العمل فيها يجري على قدم وساق، ركن المكتشفات الآثارية، وركن الدعون، وهي مطارح وأماكن كان يجتمع فيها الرجال، بعيدا عن بيوتهم ومجالسهم التقليدية، تشبه في تكوينها العام مثلما ببساطتها تلك المظلات التي تصنع حديثاً في الأماكن والحدائق العامة إنما بجهد مختلف وروح مختلفة.
لقد قُصّت الجذوع إلى أربع سيقان خشبية، منها كانت الأعمدة والمقاعد، وكذلك دعامات السقف الذي يُغطى بسعف النخيل. الورشة التي كانت قائمة في هذا الركن لم تسمح لنا بأن نتجاوز ما هو أكثر من النظر إليها. جذوع النخيل التي قصت جرى تمديد السيقان التي آلت إليها فتكومت فوق بعضها البعض، وكي لا ينفرط عقدها على الرمل دُقّت أوتاد خشبية ضخمة على أطرافها كي لا تخرج عن النسق، وذلك قبل رفعها إلى السقوف لتصير دعامات أو يُحفر لها في الأرض ويسكب عليها الملاط لتصبح أعمدة ينبغي لها أن تحمل السقف. أيضاً ثمة أكوام من حجارة كانت حتى يوم قريب تغتسل بماء وقد تجاورت على الشاطئ الذي لا يبعد كثيرا عن البوابة الشمالية لقصر الحصن التي كانت تنفتح على البحر مباشرة.
ترميم القصر
خلال الجولة سُمح لنا بالتسلل إلى باحة قصر الحصن ذاته، وليس إلى أركانه وأجنحته لنشاهد ما تمّ ترميمه أو ذلك الذي ما زال قيد الترميم.
من الصحيح أن النمط المعماري بسيط هنا وبلا تعقيدات ولا يحتاج سوى إلى أيد ماهرة تبنيه، لكن ترميمه أو إعادة ترميمه هي الأمر الأكثر دقة وحساسية، ذلك أن العودة إلى المواد الخام التي انبنى منها القصر أصلا هي من البيئة ذاتها، وهنا ينبغي الأخذ بعين الاعتبار تلك التحولات في المناخ والبيئة وأثرها على هذه المواد وبالتالي قياس مدى استمراريتها وحاجتها إلى الصيانة بين فترة وأخرى. هذه كلها كانت أسئلة لم نتمكن من أن نحملها إلى المهندسين الذين بدوا مشغولين مع عمالهم، ويشرفون على عملية الترميم في الداخل دون أن تتاح لنا فرصة الالتقاء بهم، وتلقي أجوبة عن أسئلة ربما يحدث تصويب لها من قبلهم.
المصدر: جهاد هديب (ابوظبي) – الاتحاد