ما إن استسلمت القوى العالمية الكبرى لإرادة السلام، وانتهت الحرب العالمية الثانية، حتى أطلت فرنسا ملوّحة براية بيضاء جديدة، لتحتفل بالفن السابع، ناقلة إلى العالم رسائل إنسانية وترفيهية عبر الفنون الراقية. فكانت ولادة مهرجان «كان» السينمائي الدولي عام 1946 بعدما أجلته الحرب، وفرضت عليه ولادة متعسرة، ومتأخرة عن الموعد الذي كان سابقاً عام 1939، حيث لم يدم أكثر من ثلاثة أيام حتى اندلعت الحرب بين فرنسا وألمانيا. سبعون عاماً مرت، غاب بعض ممن أسسوا المهرجان، وحكّموا فيه، ونالوا جوائز، أو تم تكريمهم. سبعون عاماً، تستحق أن تلبس من أجلها «كان» أجمل أزيائها، وتستعد لاستقبال ضيوفها، وانطلاق مهرجانها يوم الأربعاء المقبل 17 مايو/أيار ولغاية 28 منه. سبعون عاماً والنجوم، وأهل الصحافة، من مختلف أنحاء العالم يتوافدون على شاطئ «الكروازيت»، للاحتفال بقمة الإبداع السينمائي، وللمهرجان طعم حلو ومرّ هذا العام لأسباب كثيرة، ولنا نحن العرب معه محطات لا تنسى.
ليس وحده «الأوسكار» جاء في دورته الأخيرة متأثراً بالأجواء السياسية والانتخابات الأمريكية، فمهرجان «كان» أيضاً، أعلن انحيازه للقضايا الإنسانية، ولم يتردد رئيسه بيار ليسكور في الحديث صراحة عن أن السينما مرآة العالم، وأنه من الطبيعي في ظل الأجواء السائدة، أن تطغى الأفلام السياسية على المهرجان. ليسكور الذي لم يكتف بالتلميح من بعيد إلى ما تتضمنه أجواء الأفلام المشاركة، سواء ضمن المسابقات الرسمية أو على هامشها، وضمن الفعاليات، تعمد أن يأتي على ذكر الرئيس الأمريكي بقوله: «منذ أن أصبح هناك كل يوم مفاجأة جديدة من دونالد ترامب، أتمنى ألا تلقي سوريا وكوريا الشمالية بظلالهما على المهرجان».
لماذا الاهتمام بالسياسة؟ لأن السينما الصادقة لا يمكنها أن تنفصل عن الواقع. حتى تلك التي تذهب بعيداً لتتناول أحداثاً من التاريخ، أو من الماضي القريب، لا بد أن تتناول مراحل من حياة الناس وظروفهم والأجواء التي عاشوا فيها. والسياسة تتحكم في مصير الشعوب، فتدمر أو تعمّر، كما تترك بصماتها في الذاكرة وفي النفوس. ومهرجان «كان» من أهم المهرجانات الدولية التي ينتظرها أهل الفن السابع بحماس وشوق، ويتمنون أن يعرضوا أفلامهم فيها، ولو خارج إطار المنافسة، حيث تكون كل العيون مسلطة على هذا الحدث العالمي، وتتواجد فيه أكبر شركات الإنتاج، وصناع هذه المهنة من مختلف الدول، ويتضمن على الهامش فعاليات وأمسيات تتيح المجال للقاء بين النجوم وأهل المهنة، وأصحاب رؤوس الأموال. إلى جانب توفر أكبر سوق لبيع وشراء الأفلام وتسويقها عالمياً. لذا من الطبيعي أن يحمل الكتاب والمخرجون قضاياهم السياسية والإنسانية إلى «كان»، لتسلط عليها الأضواء أكثر، وتجد طريقها إلى الجمهور لاحقاً.
18 فيلماً في المسابقة الرسمية، من أصل 49 فيلماً من 20 دولة حاضرة في المهرجان. تتنافس بقوة لاسيما وأن أغلبيتها تحمل قضايا حساسة وإنسانية. فالمخرج النمساوي مايكل هانيك مثلاً، يتناول قضية اللاجئين ومخيماتهم في شمال فرنسا، من خلال عائلة برجوازية تعيش في تلك المنطقة، ليكشف واقعاً مريراً في فيلمه «نهاية سعيدة»، أو «هابي آند». هانيك سبق أن نال السعفة الذهبية مرتين عن فيلميه «حب» عام 2013، و«داس ويبي باند» عام 2011، ويطمح إلى أن يكون أول مخرج يفوز بالسعفة الذهبية ثلاث مرات. وفي رصيده جوائز عالمية أخرى.
كذلك يتناول المخرج المجري كورنيل ماندروتشو (حائز جائزة «كان» عن فيلمه «وايت غاد» ضمن مسابقة «نظرة ما» عام 2014) اللاجئين من وجهة نظر أخرى، يقدمها في فيلم «جوبترز مون». في حين تعرض الممثلة والناشطة البريطانية فانيسا ريدغريف فيلماً وثائقياً عن اللاجئين ومعاناتهم، في فيلم «سي سوروو». والسلوفاكي جيورجي كريستوف، يعرض في أول عمل من إخراجه، معاناة المهاجرين العمال في أوروبا، عبر فيلمه «آوت» أو «خارج
للمرأة نصيب وافر
لا يقتصر تميز هذه الدورة من «كان» على السياسة فقط، ولا على الاحتفال بمرور 70 عاماً، بل بمجموعة أحداث مهمة فيها، منها: أن يترأس لجنة تحكيمها المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار، وتضم 4 نساء، و4 رجال: الممثلة الأمريكية جيسيكا شاستاين، المخرجة الألمانية مارين أدي، الممثلة الصينية فان بينغ بينغ، المخرجة والممثلة الفرنسية أنييس جاوي، الممثل الأمريكي ويل سميث، المخرج الكوري (جنوب كوريا) بارك شان ووك، المخرج الإيطالي باولو سارنتينو، وغبريال يارد المؤلف الموسيقي اللبناني الفرنسي الذي كرمه العام الماضي مهرجان دبي السينمائي.
النساء حاضرات وللمرأة نصيب وافر هذا العام، وتترأس النجمة إيما ثورمن لجنة «نظرة ما»، فيما تقدم حفلي الافتتاح والختام النجمة الإيطالية مونيكا بيلوتشي. ونالت لقب «ملكة مهرجان كان» لهذه الدورة النجمة نيكول كيدمان، بسبب منافستها بقوة بأربعة أفلام دفعة واحدة، ولا بد من أن تخرج بجائزة على الأقل. ومن أهم أفلامها المشاركة، فيلم من إخراج وتأليف امرأة أيضاً، وهي صوفيا كوبولا – ابنة المخرج الكبير فرانسيس فورد كوبولا- «الخدع» أو «ذا بيغيلد»، والبطولة فيه أيضاً لمجموعة من النساء، إلى جانب النجم كولن فاريل، وهن نيكول كيدمان وإيل فانينغ وكريستن دانست. أما فيلم كيدمان الثاني في المسابقة، ويشاركها فيه أيضاً كولن فاريل، فهو «قتل غزال مقدس»، أما عملها الثالث فهو «كيف تتحدث إلى فتاة في حفلة»، بينما مشاركتها الرابعة تأتي ضمن المسلسل الذي يشارك لأول مرة في «كان» بعنوان «أعلى البحيرة: الفتاة الصينية». ومن المشاركات في المهرجان، النجمة كريستين ستيوارت، لكنها هذه المرة باعتبارها مخرجة للفيلم القصير «وتأتي السباحة».
«نتفليكس» والتلفزيون يزاحمان السينما
يبدو أن إشادة مدير مهرجان «كان» العام الماضي بخدمة «أمازون»، وأنها أصبحت مفيدة لصناعة السينما، وتساهم في الترويج للأفلام، كانت بمثابة تمهيد لمجيء الثورة التكنولوجية لتفرض نفسها على مهرجان «كان» لأول مرة. فبعد انتشارها بقوة، استطاعت «نتفليكس» الشركة الترفيهية الأمريكية، التي تعرض الأفلام الحديثة بخدمة سريعة لقاء اشتراكات مدفوعة، الوصول إلى المهرجان، لتشارك بإنتاجها فيلماً يعتبره البعض قوياً وسياسياً، بعنوان «أوكجا» للمخرج بونج جون هو، بطولة النجمة تيلدا سوينسون، وهو فيلم خيال عن طريقة استغلال الحيوانات. كما يتضمن المهرجان أفلاماً من نوعية الواقع الافتراضي، مثل الفيلم القصير للمخرج أليخاندرو غونزاليز إيناريتو، والمصور لوبزكي (فازا بجوائز أوسكار) «لحم ورمل».
أما المفاجأة الحقيقية، فهي دخول التلفزيون لمزاحمة السينما في عقر دارها، حيث تعرض لأول مرة في مهرجان سينمائي عالمي، حلقتين من مسلسل «توين بيكس» للمخرج دايفيد لينش، وعرض أول للجزء الثاني من المسلسل الدرامي البوليسي «أعلى البحيرة» للمخرجة جاين كامبيون.
من وهبي وشاهين.. مصر شريكة في ولادة المهرجان
الوجود العربي يقتصر هذا العام على مشاركة فيلمين في مسابقة «نظرة ما»، وهما: «على كف عفريت» للتونسية كوثر بن هنية، و«طبيعة الوقت» للجزائري كريم موساوي. إضافة لمشاركة المخرج الفلسطيني الدنماركي مهدي فليفل بفيلمه «رجل يغرق» في مسابقة الأفلام القصيرة.
أما إذا عدت بالتاريخ إلى الوراء، فتجد أن مهرجان «كان» لم يكن مجرد احتفال فني، أو سينمائي مبهر. وقتها كان حدثاً وطنياً وعالمياً، وللعرب معه حكاية طويلة. ولد في فرنسا كأول مهرجان دولي للفيلم، وانطلق فعلياً يوم 20 سبتمبر/ أيلول 1946 واستمر لغاية 5 أكتوبر/تشرين الأول. وفي الوثيقة الرسمية للتعريف بالمهرجان، جاء في البند الأول أن هدفه هو تشجيع صناعة الفنون السينمائية بكل أشكالها، وخلق روح التعاون بين المنتجين من مختلف دول العالم. ولعلنا نتفاجأ اليوم، حين نعلم أن حفل الافتتاح تميز بعروض لفرق من النوبة، والمغرب، والسنغال، ومن أجواء المعارك والحروب التي تركت أثراً في العالم، أطلق منظمو الحفل «معركة الورود» في أجواء استعراضية رائعة.
والمفاجأة الأكبر، أن يكون للعرب بصمات مهمة في هذا الحدث، ومنذ تأسيسه، حيث ضم في دورته الأولى وفي لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الطويلة، الفنان الكبير يوسف وهبي.
منذ ذلك التاريخ ومصر على موعد مع «كان» لعرض أقوى أفلامها، وسجلت في دفاتر المهرجان أسماء أشهر مخرجيها: يوسف شاهين، محمد كريم، أحمد كامل مرسي، صلاح أبو سيف، أحمد بدرخان، وكمال الشيخ. وتوالت مشاركة الأفلام المصرية في المهرجان، منذ عام 1946 بفيلم دنيا للمخرج محمد كريم، وفي أعوام 1949، و1952 و1954 كان نصيب مصر المشاركة بفيلمين في كل منها، ثم شاركت بفيلم واحد في 1955 و1956، لتلعب السياسة دورها وتمنع عروض الأفلام المصرية إثر العدوان الثلاثي.
وقتها كانت السينما المصرية في عز تألقها، تحدث هزات وتترك أثراً مهماً في الصناعة عالمياً. بلغت بجرأتها حدوداً أبهرت الغرب، خصوصاً في أفلام مثل «صراع في الوادي»، و«شباب امرأة» و«الأرض».
يوسف شاهين كان العلامة الفارقة في هذه العلاقة القديمة والتاريخية بين «كان» ومصر. هو أكثر المخرجين حضوراً، وأكثرهم مشاركة، سواء ضمن المسابقات، أو خارجها. جاء إلى المهرجان بفرح كبير، أحبه فبادله المهرجان بالسعفة الذهبية كجائزة تقدير عن مجمل أعماله في العام 1997.
ولم تنقطع مشاركات الأفلام المصرية وحضور المخرجين فيها، لاسيما ضمن مسابقة «نظرة ما»، أبرزهم محمد خان، ويسري نصرالله، وكان آخر المشاركين المخرج محمد دياب بفيلم «اشتباك» عام 2016 في افتتاح «نظرة ما».
المصدر: الخليج