مراكش: محمد رُضا
في 13 سنة أنجز مهرجان مراكش حضورا عالميا مزدهرا قوامه مزيج من الشخصيات الكبيرة التي تحط فيه وتشترك في فاعلياته، وأفلام قلما عرضت في أي من المهرجانات العربية الأخرى سواء تلك التي تقام قبل المهرجان المغربي أو بعده. وإذ انطلقت الدورة الجديدة يوم أمس في افتتاح مهيب، تستمر حتى السابع من الشهر التالي، عندما توزع الجوائز بحضور رئيس لجنة التحكيم والمدمن منذ حين على حضور المهرجان مارتن سكورسيزي.
سكورسيزي الذي يتم إطلاق فيلمه الجديد «ذئب وول ستريت» في الأسبوع الثاني من ديسمبر (كانون الأول) يعرف كيف يقدر المواهب الجديدة ويشجعها. قد لا تكون مواهب شابة لكنه بحدسه الثقافي وإدراكه السينمائي الشامل يبدو أكثر من مؤهل لإدارة لجنة تحكيم في أي مكان حول العالم. ومن عداد من سيقوم بلقائه المخرج أحمد المعنوني، أحد هؤلاء السينمائيين المغربيين الذين قد لا يحققون فيلما كل سنة أو حتى كل عشر سنوات، لكن ما يحققه دائما يشع بموهبته وثراء خلفيته ورؤيته. أحمد المعنوني ومارتن سكورسيزي يعرفان بعضهما، نتيجة قيام المخرج الأميركي بمشاهدة فيلم المعنوني التسجيلي «الأيام الأيام» (1978) وإبداء إعجابه به لدرجة أنه رممه قبل سنوات وساعد في إعادة توزيعه. في عام 2007 حقق المعنوني فيلما روائيا طويلا هو «القلوب المحترقة» عرض في مهرجان دبي ونال عليه جائزة مهمة وإعجابا كبيرا.
يرأس سكورسيزي لجنة تحكيم تشمل المخرج التركي فاتح أكين والممثلة الأميركية باتريشا كلاركسون والممثلة الفرنسية ماريون كوتيار والكاتب والمخرج المكسيكي أمات إيسكالانتي والممثلة الإيرانية غولشيفته فرحاني والمخرج والمنتج الهندي أنوراغ كاشياب والمخرجة المغربية نرجس النجار والكاتب والمخرج الكوري بارك تشان – ووك (فيلمه «أولدبوي» أعيد صنعه أميركيا على يدي سبايك لي وينتظر العرض خلال أيام) والمخرج والكاتب الإيطالي باولو سورينتين.
إنها أسماء كبيرة وكثيرة. في الحقيقة يخاطر مهرجان مراكش في مسألة أن ينظر إليه كملتق للنجوم من دون فعل ثقافي حقيقي. وكانت هذه الشبهة اندلعت منذ ولادته واستمرت لسنوات بعد ذلك ومفادها أنه مهرجان للاستعراض الكبير ولاستقبال النجوم الأجانب أكثر منه حدثا فنيا مهما. في المقابل، يمكن أن ينظر المرء إلى هذا الحضور (وهناك عشرات الأسماء الكبيرة التي تصل إما لحضور حفل الاحتفاء بها أو لكونها مشتركة في المسابقة أو خارجها) على أساس أنه حق مكتسب لمهرجان لا يؤمن بأن يتصنع التواضع ولا يرى سببا للإحجام عن استقبال كبار السينمائيين إذا ما استطاع الوصول إليهم.
* مهرجانات عدة
* من ناحية أخرى، اتخذ مخرجون وسينمائيون مغربيون موقفا منتقدا عندما لاحظوا أن الاهتمام الرسمي للمهرجان يصب في دائرة السينمائيين الأجانب، وأن السينمائيين المحليين يبدون بالنسبة للمهرجان كما لو كانوا متطفلين. هنا أعاب هؤلاء على الإدارة الفرنسية المعينة والتي نجحت في دعم المهرجان دوما بالحضور المكثف للسينمائيين الأجانب. ومع أن هذا النقد وصل إلى حد التداول في الصحف المحلية والعربية، إلا أن المرء عليه أن يرى بنفسه لكي يتأكد من أن هناك تمييزا لصالح الأجانب ضد سينمائيي البلد.
ليس أن سينمائيي البلد يحتاجون للبرهنة عن مواهبهم وينتظرون من مهرجان مراكش أن يكون النافذة المناسبة لهم. اليوم يدرك كثيرون منهم أن أعمالهم مطلوبة في أكثر من مكان شرقا أو غربا. في العامين الماضيين مثلا كان عدد الأفلام المغربية التي عرضت في مهرجان دبي تفوق تلك التي عرضها مهرجان مراكش. الحال ذاته حين مقارنة ما عرضه مهرجان أبوظبي من أعمال مغربية. والمهرجانات المحلية المقامة في المغرب تكاد لا تحصى. ما لا يقل عن عشرة محلية بعضها للتسجيلي وبعضها للروائي وبعضها للقصير. قسم منها للسينما المغربية وحدها وقسم منها لسينما البحر المتوسط وآخر للدول المجاورة.
والإنتاج لا يتأخر. تحت إدارة الناقد السابق والمدير الحالي لمؤسسة الفيلم المغربي، ارتفع عدد الأفلام المنتجة في المغرب من أقل من عشرة أفلام روائية في السنة، حتى مطلع التسعينات، إلى أقل من عشرين مع مطلع العقد الجديد ثم إلى ما هو أكثر من ذلك منذ خمس سنوات وإلى اليوم. نور الدين الصايل يعزي ذلك إلى الانفتاح: «ليس لدينا رقابة مسبقة على ما يريد المبدع المغربي تحقيقه. نقوم برصد مساعدة مالية له وتركه يشتغل. هذا ما يجعله مستقلا ومتحررا من القيود ويؤدي إلى ما تشهده السينما المغربية من إنجازات.
* حول المدينة
* بعض الأفلام المغربية التي شوهدت في العام السابق والحالي تؤكد أن مستوى الإبداع والتجديد بات يشكل منحى لافتا لسينما كانت تتحرك ببطء شديد وتفتقر إلى العناصر الإنتاجية والفنية المناسبة. محمد عسلي أخرج «أياد خشنة» وعالج فيه موضوع امرأة تحاول الهجرة، شرعيا، إلى إسبانيا وبيئتها الاجتماعية التي تعيشها. فوزي بنسعيدي ثابر على تقديم المختلف بصريا عندما قام بتحقيق «بين الموت» حول ثلاثة أصدقاء يعيشون على هامش المجتمع لينقلبوا سريعا إلى الجريمة. وبينما كان كثير من المخرجين العرب ما زالوا يحققون الفيلم ذاته أكثر من مرة، وفي كل مرة، ولد مخرج جديد اسمه هشام لعسري الذي فاجأ النقاد بجودة ونوعية فيلمه الأول «النهاية».
الجامع بين هذه الأفلام الثلاثة على الأقل رؤية متشابهة للمدينة والبيئة الاجتماعية السائدة. فيها تلعب المدينة دورا رئيسا في تحديد معالم هذا الفيلم. هي كابوس مهيمن يسرق اللذات ويحيل الأشخاص إلى مواطن مدمرة. ما يختلف «النهاية» عن الأفلام المذكورة التعامل مع قدر أكبر من الرمزيات منسجمة مع معالجته الواقعية معا. إنه عن ميخي (صلاح بن صلاح) الذي يتعرف على فتاة (حنان زهدي) في وضع غريب. لقد وجدها مقيدة بسلاسل في المقعد الخلفي من سيارة. خرساء لا تتكلم لكن لها قلب نابض بالمشاعر، وهو يفك قيدها منفتحا، بذلك، على تداعيات لم تكن بحسبانه كونها سجينة أشقائها الأربعة الذين كونوا عصابة شوارع. ميكي يتعاون مع رئيس البوليس المحلي داود (إسماعيل أبو قناطر) الذي يتمتع بحياة ذات وجهين متلاصقين. في الحقيقة أفضل تشخيص حالة وأفضل أداء في الفيلم هو ذلك الذي يوفره أبو قناطر للدور. في الوقت الذي هو فيه شرطي صارم (صورة تتردد في فيلم فوزي بن سعيدي في دور يؤديه بنفسه لكنه يخلو من بعد حقيقي) بقدر ما هو زوج عطوف لديه زوجة مقعدة يمنحها حبه وحنانه.
والنظرة صوب المدينة أيضا نجدها في فيلم نبيل عيوش «يا خيل الله» الذي هو أفضل أفلامه لناحية إخلاصها في رصد ما ينشد الفيلم رصده من واقع اجتماعي. لكنه في الوقت ذاته يركن إلى شخصيات مرسومة بتصميم مسبق إلى حد بعيد. ولدى عيوش طريقة في التعامل مع الأولاد كممثلين لا نجدها متوفرة بالأسلوب الطيع والتلقائي ذاته لدى أي مخرج آخر. في نهاية المطاف هو فيلم قد يحمل المشاهد لاعتباره عملا يستغل الواقع لحسابه الخاص، كما قد يذهب البعض للقول، أو قد يحمل المشاهد لتقدير الخطوة على أساس أنها إنما تنقل الواقع وتبحث في أسبابه. على الرغم من أن الفيلم ليس استغلالا، إلا أن الأسباب الواردة ليست كافية وربما استطاع عرضها أو الحديث عنها في فيلم آخر.
* أفلام مغربية
* هذا العام حظ السينما المغربية في المهرجان المغربي أكبر من حظه في الأعوام السابقة، كما يؤكد البعض. داخل المسابقة «حمى» لهشام عيوش و«المسيرة» لنبيل بن يدير كما «الخائنات» وهو إنتاج أميركي – مغربي مشترك قام بتحقيقه شون جيليت، الذي كان قال لنا خلال لقاء تم في مهرجان فينسيا حين عرض هذا الفيلم لأول مرة، إنه يعيش في المغرب لأنه يحبها وفيها يريد أن يصنع أفلامه.
خارج المسابقة أربعة أفلام مغربية أخرى. «هم الكلاب» (يعرضه مهرجان دبي أيضا) ثاني أفلام هشام لعسري و«سارة» و«كان يا ما كان» وكلاهما للمخرج سعيد الناصري ثم «خلف الأبواب المغلقة» لمحمد عهد بنسودة.
الافتتاح تم والعيون تتطلع إلى الشاشات وما سيرتسم عليها من أفلام. في أيام ثمانية ستتوالى الأفلام متناحرة لا على الجائزة الأولى، بل على أعين النهمين لمزيد من الأفلام منتقلين من مهرجان إلى آخر كما لو أن العالم بأسره بخير. بالنسبة لهم، المهرجانات السينمائية – بل السينما جميعا – هي الرد الأنسب لما يحدث من حولنا.
المصدر: الشرق الأوسط