رئيس تحرير صحيفة الرؤية
من هم «داعش»؟ من أين أتوا؟ من يقف وراءهم؟ من أين لهم هذه الأموال؟ كيف يمتلكون كل هذه القوة؟ كيف يمكن التغلب عليهم؟.. أسئلة لها بداية ولا نهاية لها، في أي مجلس ومع أي مجموعة مثقفة أو غير مثقفة، مهتمة بالسياسة أو غير مهتمة، وعلى جميع المستويات، كبار المسؤولين، ومن هم أدنى منهم، بل وحتى الأطفال أصبحوا يطرحون التساؤلات حول «داعش»!
لقد تمكنت هذه الجماعة الخارجة عن الإنسانية، وعن الأخلاق، وعن الأديان والتحضر من أن تشغل المنطقة، بل وتشغل العالم بمتابعتها، حتى أنها أصبحت تنتج الأفلام الاحترافية وتصور مشاهد القتل والتعذيب والغرق والحرق وتروج لأخبار تجنيد الأطفال وسبي النساء وبيعهن في أسواق النخاسة دون خوف أو خجل!
ومن يؤيدون «داعش» أو يعارضونهم يشاهدون أفعالهم ويتابعون أخبارهم، بل والغريب أن مناهضيهم يروّجون لتلك الأفعال الشنيعة، إما بتناقلها والحديث عنها، أو بنشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أو بالخوف والتخويف من تلك الأفعال ومرتكبيها بدلاً عن مواجهتهم!..
والإعلام سواء العربي، أو الغربي شريك في الترويج «المجاني» لذلك الإرهاب المنظم ولتلك الفوضى الإنسانية، فتتسابق بعض وسائل الإعلام في نقل جرائم هذه المجموعات وأخبارها الدموية دون شعور بأن كل ذلك يساعد على الترويج لأفعالها ويجعل انتشارها أكبر، وهذا ما تريده بالضبط، بعد أن أصبح إرهابيو القرن الحادي والعشرين يدركون أهمية الإعلام وتأثيره، وهو ما جعلهم يخصصون ميزانيات كبيرة للدعاية لأنفسهم.. ثم نأتي نحن كجمهور وبكل سذاجة لنحقق لهم ما يريدون و بـ«المجان»!
من يدقق في أسلوب التعامل مع الإرهاب «الداعشي» يلاحظ أن العالم يعيش حالة من الاندهاش الجماعي والذهول الجماعي والصدمة الجماعية من أفعال هذه المجموعات! فلماذا نحن غير قادرين على الخروج من فلك هذه الشرذمة الجاهلة بالدِين وبأبسط قواعد حقوق الإنسان؟!
لقد قصفهم العالم بأحدث الطائرات وأكثر الأسلحة فتكاً، وفي المقابل تزداد هذه الجماعات قوة وانتشاراً وتوسعاً وتزداد قاعدتها القتالية من شباب يأتون إليها من كل مكان ولكل الأغراض.
الخطوة التي تم اتخاذها منذ أيام بافتتاح مركز «صواب» يهدف إلى التصدي لدعاية «داعش» الإعلامية المغرضة على وسائل الاتصال الاجتماعية تعتبر محاولة ممتازة، ولكننا بحاجة إلى المزيد من هذه المبادرات ومن الجميع، فمواجهة داعش ليست مسؤولية دولة الإمارات، أو أية دولة بمفردها، وإنما هي مسؤولية مشتركة، ويجب أن تتحملها جميع دول العالم لمواجهة هذا الخطر، ومن جميع النواحي فعلى سبيل المثال: هل فكرنا بطريقة ينقذ فيها المتورطون مع «داعش» أنفسهم، ويجدون طريق الخلاص من هذه الجماعة الإرهابية؟
هل أوجدنا قنوات ووسائل وأدوات يفضح من خلالها من يعرفون «داعش» تصرفاتها الإجرامية وغير الإنسانية؟
لقد تجاهلنا الأفعال، ولا نزال في مرحلة ردود الأفعال، ولم نفعل الكثير من الأشياء البسيطة ونريد تحقيق انتصارات كبيرة!
لم يعد يخفى على أحد أن قوة «داعش» و«النصرة» وغيرها من المجموعات الإرهابية ناتجة عن ضعف المسلمين والعرب والمجتمع الدولي في مواجهتهم، وعدم التركيز في إصابتهم في ما يضعفهم، الأمر الذي أدى إلى العجز عن إيقاف تجنيدهم أعداداً أكبر من الشباب.. ذلك جانب مهم، إلا أن هناك حقيقة كبيرة يجب عدم القفز عنها، وهي أنه لا يمكن مواجهة «داعش» إذا لم نواجه أنفسنا ونصحح أخطاء الماضي. فـ«داعش» نتيجة لسنوات من الخطاب الديني المتشدد، لكن مشكلتنا كعرب ومسلمين أننا نرفض الاعتراف بذلك، كما أننا لا نريد أن نعترف بأن أجزاء كبيرة من خطاب «داعش» كانت خطابات منتشرة في دولنا العربية، وكانت تردد -بشكل مباشر أو غير مباشر- في مساجدنا وفي خطب الجمعة، وكانت تُردد في المحاضرات الدينية «الإخوانية»، أو السلفية، أو غيرها على ألسنة، وبالأصوات العالية، رموز تلك الجماعات الدينية! فلماذا نصر على أن ندفن رؤوسنا في التراب؟ ولماذا نحاول أن نحجب الشمس بالغربال بدلاً من أن نصحح تلك الأخطاء القاتلة؟
لن تفيد محاولات التستر على الماضي وأخطائه أحداً غير المتشددين من المتدينين الذين يتبنون خطاب «داعش». وإذا كنّا صادقين في رغبتنا في مواجهة «داعش» ، فلنبدأ بمواجهة الأفكار التي خرجت من الجماعات الإسلامية، والتي غذت الشباب بالتوجهات الدينية المتشددة، وجعلت الدين محور حياتهم وأبعدتهم عن أمور مهمة في الحياة، كانت ستفيدهم وتفيد أوطانهم، وتخلق لهم التوازن النفسي والاجتماعي والروحي، الذي يساعدهم على رؤية واقع الحياة والتحديات التي تواجه الأمة بمنظور موضوعي وواقعي، يستند إلى ما نعيشه اليوم، وليس إلى واقع عاشه أسلافنا قبل ألف سنة أو خمسمائة سنة مضت.
الحقيقة أن الخطاب الديني في كثير من الدول العربية والإسلامية، التي تدعي أنها ترفض أفعال«داعش»، هو في واقعه خطاب يرفد «داعش» بمزيد من الانتحاريين والمغامرين المغفلين.. وإذا لم تصحح بعض الدول من خطابها الديني وتعترف بالأخطاء التي تمارسها، والتي تؤدي إلى التطرّف، فلن ينتهي «داعش»، وإنما سيأتينا من هو أشر منه وأكثر خطراً. الواقع يتطلب أن يقف المتدينون مع أنفسهم قليلاً، وأن يراجعوا خطاباتهم الدينية، وينقحوها من الشبهات والمبالغات ومن الضعيف من الدعوات، وألا يتركوا دروس المساجد والمحاضرات لكل من هبّ ودبّ من الذين يصبحون فجأة وعاظاً وعلماء! وألا يسبغوا الألقاب على أنفسهم، فبمجرد أن يطيل أحدهم لحيته ويقصر ثوبه يسمى بـ «الشيخ»، وهو لا يزال مبتدئاً يحبو في طلب العلم!
فلنرتقِ بالخطاب الديني وننقح ساحة الدين من المتسلقين، ومن أصحاب أنصاف العلم الذين قرؤوا كتاباً أو كتابين وسمحوا لأنفسهم بالوعظ والفتوى، فلنعمل على إعادة هيبة علماء الدين الحقيقيين ليستعيدوا مكانتهم، فقد أصبحوا اليوم بلا هيبة، ولا يجدون من يصدقهم لكثرة اختلاط الخبيث بالطيب.. وهم من كانت تشد إليهم الرحال في يوم من الأيام. فليقتنع رجال الدين الحقيقيون بذلك وليعملوا على استعادة مكانة الدين بالتمسك بما جاء به نبي الرحمة، وذلك بنشر المحبة والتسامح بين البشر والتأكيد على الاعتدال في كل شيء والتمسك بنهج محمد بن عبدالله، عليه أفضل الصلاة والتسليم، وبالعيش في واقعنا الحالي ليس في كتب الأولين الذين نُكنّ لهم كل احترام وتبجيل، ولكن لهم زمانهم الذي مضى، ولنا زماننا وظروفنا وأولوياتنا التي نعتمد فيها على دستورنا القرآن الكريم الذي يصلح لكل زمان ومكان. لم يأخذ هذه الأمة إلى الوراء إلا تمسك البعض بكتب الأولين القديمة التي لم تعد تصلح لزماننا، بقدر ما كانت صالحة لزمانهم، فمتى نخرج من هذه العقدة، ونعتمد على أنفسنا في كتابة الحاضر والمستقبل، ونترك الماضي لأهله الذين رحلوا، دون أن نغفل عن أن نستفيد ونأخذ منهم ما يمكن أن يصلح من كلامهم لعصرنا وزماننا.
المصدر: الاتحاد