شرعت الجهات الطبية السعودية منذ عام 2011، بمشروع المسح الوطني الشامل للأمراض النفسية في ست مناطق سعودية، في خطوة لجمع المعلومات الميدانية، وجرى الانتهاء من منطقتين حتى الوقت الحالي، للوقوف على خارطة الصحة النفسية في البلاد. وتصدرت اضطرابات «القلق والاكتئاب» محتلة المرتبة الأولى من بين الأمراض النفسية.
وبحسب وزارة الصحة السعودية فإن 25 في المائة من مراجعي العيادات الأولية يعانون بالدرجة الأولى من أمراض عصابية متنوعة، مثل القلق والخوف والاكتئاب واضطرابات ما بعد الصدمة، في حين لم تتجاوز حدود مرضى الفصام نسبة المعدل العالمي وهي واحد في المائة من معدل السكان.
وفي ظل رغبة متزايدة لرفع مستوى العلم، اتخذ «متاجرون بهموم الناس» وظيفة تتذرع بأمور لا يقواها سوى القراء والمشعوذين، أو عبر بوابة «الوسادة البيضاء» في الرؤى والأحلام، فأخذت ملامح المرضى والمراجعين لعيادات الصحة النفسية تزداد سوءا.
في المقابل، تكثف الجهات المسؤولة نشاطها ليأخذ المريض النفسي حقه في العلاج، باعتباره جزءا لا يتجزأ من جسد المجتمع، وبدأت التشريعات تقطع دابر المتربصين. وأخذت السلطات على عاتقها تغيير صورة المصح النفسي ونزلائه لدى الجمهور العام، الذي كان مجرد روايات وأساطير، ارتبطت جميعها بأخبار المرضى العقليين أو الممسوسين بالأرواح الشيطانية أو العين الشريرة، حتى بلغ الطب العقلي مبلغه في تعريف وتشخيص الجنون أو ما بات يسمى اليوم بالمرض النفسي.
كل ذلك وأكثر، تستعرضه «الشرق الأوسط» في حديث مع الدكتور عبد الرحيم الحبيب مدير إدارة الطب النفسي بوزارة الصحة السعودية.
كانت أسباب الإحباط وفقدان الأمل والخوف وعدم الشعور بالأمان خلف ارتفاع رواد العيادات النفسية بالسعودية، بحسب الدكتور عبد الرحيم الحبيب، الذي قال «غابت خلوة النفس وبات الجميع مخترق الخصوصية، وتبدل المجتمع، وظلت الأنماط التربوية ذاتها دون تطور». وأضاف «مواقع التواصل الاجتماعي أعدمت الخصوصية، وغيبت قدرة العامة على تقييم الأمور، وشجعت الانقياد والمقارنة، ليتسبب ذلك في رفع وتيرة القلق والتعلق بالرموز عبر صور وتغريدات مجردة دون ظهور الصورة الحقيقية خلف ذلك كله».
ويقول الدكتور الحبيب «يتمتع المجتمع السعودي بخصوصية الإصابة بمرض الرهاب الاجتماعي والوسواس القهري بنسبة أكبر من المجتمعات الأخرى، بيد أن حجز الأسرة في المصحات النفسية كان لحالات تعاني أمراض الفصام والاضطراب الوجداني والثنائي القطبي « الاكتئاب الهوسي»، التي هي بحاجة في الدرجة الأولى للإخضاع إلى التنويم. ويضيف أن «الأرقام التي تسجل من قبل أماكن العلاج النفسي وتحول للمستشفيات النفسية تتعلق بالإحالات الأكثر صعوبة، وفي الواقع نفتقد للإحصاءات الاجتماعية، وكل ما يرد مقتصر على ما يرد من قبل العيادات النفسية». ولا توجد تفرقة بين المرأة والرجل، بيد أن النساء هن الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية، جراء عوامل بيولوجية طبقا للدكتور الحبيب «بالإضافة إلى ما تواجهه من ضغوط، لتبدأ رحلتها مع الأمراض العصابية والقلق والخوف».
وحول أسباب مرض المرأة، قال الحبيب «إنه نتيجة لتعرض المرأة للعنف الجسدي والنفسي، ومنعها في حالات من إكمال التعليم والتمتع بالفرص الحياتية، مثل العمل أو الزواج، وعدم تقبل استقلاليتها، واعتمادها على طرف آخر لإنجاز مهامها، وتحملها المسؤوليات الأسرية كاملة، فسرعان ما تتعرض لحالة اكتئاب مزمنة».
إلا أن الأمراض الأكثر خطورة والأكثر عنفا تعود إلى الرجل، مثل اضطرابات الشخصية والأمراض الذهانية والاضطراب الضلالي، فالمرأة تقدر بثلث الحالات المنومة – حاليا – في المستشفيات النفسية، فمن بين السعة السريرية لمستشفيات وزارة الصحة النفسية التي تقدر بثلاثة آلاف مريض، تحجز النساء في الوقت الراهن ألف سرير، لكنه عاد وشدد على أن أعداد المنومين لا تعكس مؤشرات نسب الأمراض النفسية، وقال «إن التنويم لا يعكس حجم الظاهرة، فأغلب المرضى النفسيين لا يحتاجون إلى التنويم، ومن يراجعون المستشفى هم الأخطر، فلا بد من فصل العلاج والتونيم عند رصد المؤشرات».
وأوضح الدكتور الحبيب أن عدد مراجعي العيادات النفسية في السعودية بلغ في العام الماضي 500 ألف مريض، شكلت النساء ما نسبته 50 في المائة منهم، وكل المرضى خاضعون لبرامج الرعاية المنزلية والنهارية. ويؤكد أيضا استغلال المعالجين الشعبيين لمرضاهم ماديا وجنسيا قائلا «لقد رأيت من أصيبوا بعاهات جراء الحرق والكي، وكاد ذلك يودي بحياة البعض، إلى جانب الاعتداء على المريض وحالات اغتصاب لأطفال ونساء»، مطالبا بضرورة تقنين عمل القراء وإعطاء الرخص، وتوعية العامة بضرورة الأخذ بالطب النفسي، تجنبا للآثار النفسية والعضوية التي وصفها بالخطيرة نتيجة عمل القراء العشوائيين.
واستضافت مستشفيات الصحة النفسية خلال العام الماضي أكثر من 20 ألف مريض خضعوا للتنويم، من بينهم ما يقارب خمسة آلاف سيدة، في أكثر من 21 مستشفى حكوميا نفسيا. ودفع انغماس شريحة معينة في ظواهر الغيبيات وتسليم الذوات والعقول للعين والشياطين والانغماس في هاجس الحسد، مسؤول وزارة الصحة إلى مطالبة المعالج الديني بضرورة انضمامه إلى فريق طبي مختص، وتحت إشراف الطبيب المعالج، قائلا «نتبنى في المصحات النفسية العلاج الديني والروحي، إنما تحت رئاسة الفريق الطبي المعالج، ليقدم المعالج الديني خدماته وفق الخطة الطبية النفسية العلاجية وليس بصورة عشوائية».
ويبقى «بائعو الوهم» أو «مفسرو الأحلام»، هم «الكذبة الكبرى» على حد قول الدكتور الحبيب، فتأويل رؤيا بتعرض صاحبها أو صاحبتها لعين أو مس شيطاني أو حثه للبحث عن سحر أسود، انعكس سلبا على سير ومتابعة المرضى النفسيين للعلاج. وأضاف «واجهنا حالات عدة من رفض مرضى نفسيين الخضوع للعلاج المعرفي والسلوكي، بعد تعزيز مفسري الأحلام أوهام المرضى بوقوعهم ضحية السحر والشعوذات والعين»، لتغيب بذلك حرية الإرادة وينقلب الشك يقينا.
وزادت تحديات علم الطب النفسي، بعد سيطرة الأوهام والمضللين على أرواح وأجساد المرضى النفسيين من حجم المعاناة، بعد أن تنازعتهم المصالح وباتت «الأرواح التائهة» ليست سوى رموز لأرقام مالية اشتغل بها أشخاص على غرار «مفسري الأحلام» و«القراء الشعبيين»، مما يسمى بـ«مراكز الاستشارات الاجتماعية»، لتسويق بضاعتها تارة بتقنيات غير معهودة أو عن طريق برامج حملت شعارات تطوير الذات وإطلاق البطل أو إصلاح العلاقات الزوجية، الأمر الذي أخرج إدارة الطب النفسي بوزارة الصحة عن صمتها لتؤكد خطورة فوضى المستشارين ومراكز الاستشارات التي لا تتقن غير «بيع الكلام»، فبحسب الدكتور عبد الرحيم الحبيب فإن مجمل مراكز الاستشارات من غير المتخصصين، وطالب بضرورة تنظيم أعمالهم ومراقبتها.
ويستطرد الحبيب قائلا «بدأنا نشعر بالمشكلة، ونسعى اليوم لتنظيم واحترام التخصص ووضع تعريفات لممارسي العلاج النفسي»، مشيرا إلى تشكيل وزارة الصحة لجنة عليا متخصصة من جهات حكومية عدة برئاسة وزير الصحة لتقنين عمل مراكز الاستشارات وتوحيد الجهة المخولة بمنح التراخيص، بالإضافة إلى فرض رخص عمل لممارسي مهنة الاستشارات للإشراف على عمل المستشارين من خلال التقارير ومؤشرات الجودة. وأضاف الحبيب «بانتهاء اللجنة من حصر مراكز الاستشارات، بما في ذلك الموجودة عبر شبكة الإنترنت، لرفعها قريبا إلى الجهات الرسمية لاتخاذ القرارات اللازمة والكفيلة بضبط أعمالها؛ لا بد أن يكون هناك حديث صريح وعقوبات رادعة لمن يتجاوزون أعمالهم، ووضع سياسات عمل على مكاتب الاستشارات».
ونتيجة لارتفاع معدلات الطلاق التي طالبت بشأنها فئات مختلفة في المجتمع السعودي بضرورة اعتماد شرط الخضوع لفحص الحالة النفسية قبل الزواج، فإن المقترح قابله مدير اللجنة الوطنية لتعزيز الصحة النفسية بالرفض التام، قائلا «إن اعتماد فحص الحالة النفسية قبل الزواج أو التوظيف أمر غير قابل للتحقيق ولا يمكن التنبؤ به من خلال جلسة طبية واحدة».
في المقابل، أكد الحبيب تعاون إدارته مع الجهات العدلية في الإحالات التي ترد عبر أحكام قضائية بالكشف عن سلامة الصحة النفسية، موضحا «لدينا لجان جنائية وميدانية لتقييم صلاحية الفرد للعمل أو في مسائل الحضانة والطلاق للحكم على قدراته العقلية»، وذلك عبر تشكيل لجنة من قبل ثلاثة استشاريين لتقييم الحالة النفسية خلال مدة زمنية محددة، مضيفا أنه «في حالة الشك يتم تنويم الشخص المعني».
ورغم ما شاع في الخيال الشعبي الذي لطالما ارتبطت به صورة المؤامرة الشخصية لدى من يجري إيواؤهم في المصحات النفسية ووقوعهم ضحية، فإن الإيواء بالمصحات النفسية في السعودية خاصة لرافضي العلاج، الذي يجري في بعض حالاته بقوة أمنية، فإنه لا يجري سوى الرجوع إلى صاحب الصلاحية، سواء كان أبا أو أما أو من ذوي القربى من الدرجة الأولى لاتخاذ القرار.
وقال الحبيب «الحجر الصحي لا يكون سوى لفاقدي الاستبصار وتمييز الحقيقة عن الخيال أو من يهدد حياته أو حياة الآخرين للخطر، وذلك في حالات الانفصام الشديدة والاضطراب الوجداني والهوس»، مضيفا أن المريض يخضع لعدد من الاختبارات النفسية والتحاليل من قبل فريق متخصص، إلى جانب أخذ القصة المرضية من العائلة وتقارير العمل والدراسة، وعلق قائلا «اللبس نادر، وإن حدث فلا يستمر سوى في المرحلة الأولى».
ولفت الحبيب إلى تقدم إدارة الطب النفسي بمقترح تخويل المصادقة على قرار التنويم أو الحجر الصحي من قبل المختص النفسي، في حال رفض ذوي المريض، وذلك بعد الموافقة من قبل الجهات المختصة، وهو الأمر الذي يتضمنه مشروع النظام المقترح بشأن الرعاية النفسية، والذي ما زال تحت الدراسة في مجلس الشورى.
وتابع أن المصحات أو المستشفيات النفسية لا تعد مراكز إيواء، وإنما أماكن لتلقي العلاج والشفاء في فترات زمنية قصيرة، مشيرا إلى اعتماد المستشفيات النفسية خدمات الرعاية النهارية والمنزلية، وذلك لإشراك العائلة والمجتمع في علاج المرضى النفسيين، إلى جانب العلاج السيكولوجي والأخلاقي، واختتم بالقول «للأسف هناك مرضى رفضوا الخروج من المستشفيات والمصحات النفسية لشعورهم بالخوف من العالم الخارجي».
المصدر: الشرق الأوسط