كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
عندما كنت فتى يافعاً، كانت لعبة المونوبولي رفيقتي أنا وأصدقاء وأقارب طوال إجازة الصيف، فهي مناسبة للسهر الطويل، إذ يمكن أن يستغرق لعبها ساعتين وأكثر، لجهلي يومها باللغة الإنجليزية، اعتقدت أنها تعني «لعبة المال»، إذ بدت لي أنها تتضمن الكلمتين Money Play ولكن الترجمة الصحيحة هي «الاحتكار»، وهي ممارسة تجارية مذمومة شرعاً، وممنوعة نظاماً، بل إن من الفقهاء من حرم الاحتكار استناداً إلى الحديث النبوي «لا يحتكر إلا خاطئ»، ولكن معظمهم اشترط أن يكون في الطعام لحاجة الناس إليه، ولكن الحكومات الحديثة توسعت في تعريف الاحتكار ليشمل كل السلع والخدمات، ومن يمارس الاحتكار بمعنى جمع سلعة ما كلها أو غالبها في يده، فيستطيع حينها تحديد سعرها، لأنه المتمكن من طرحها في السوق بالسعر الذي يريد أو حجبها حتى تصل إلى السعر الذي يريد.
وقد تدخلت الحكومة في السعودية غير مرة ضد شركات ثبت أنها توافقت على رفع سعر منتجاتها، فاعتبرت ذلك «التواطؤ» من باب الاحتكار، كما قامت الحكومة الأمريكية بتفكيك شركات عملاقة بدت وكأنها قد استحوذت وحدها على السوق، فالمنافسة واحدة من أهم أسباب التدافع المؤدية إلى خفض الأسعار وتحسين المنتج والخدمات.
بل إن كثيراً من الاقتصاديين في السعودية يحثون الحكومة على التدخل لفك ما يرونه «احتكاراً» للأراضي البيضاء، ما أدى إلى رفع سعرها وتكبد المواطن تكلفة ذلك، ولكن المسؤول لم يقتنع بعد، ربما لأن الفقيه لا يزال يرى أن الاحتكار المنهي عنه يكون في «الطعام» وليس في سلعة يمكن أن يعيش الإنسان بدونها كالعقار، ربما السبب في ذلك أننا جميعاً مواطنين ومسؤولين وفقهاء، كنا نكثر من لعب المونوبولي في شبابنا فتسربت إلى عقولنا وضمائرنا قبول فكرة «الاحتكار»، فالمنتصر في هذه اللعبة هو الذي يمتلك كل الأراضي والعقارات على لوحة المونوبولي، يتهلل وجهه بالفرح، بينما يخرج اللاعبون الآخرون مفلسين يلعقون جراحهم، وتخرج نزعته الشريرة الكامنة وهو يقهقه «والله لأفلسنكم أجمعين وأشتري أراضيكم وفنادقكم التي فرحتم بها».
المفارقة أن أساس هذه اللعبة كان نبيلاً، إذ طورتها سيدة أمريكية عام 1906 كي تبين خطر احتكار قلائل لمساحات شاسعة من الأرض، وسمتها «لعبة ملاك الأراضي»، وكانت منتقدة لكنز المال واحتكار الأراضي، ولكنها خرجت عن سيطرة صاحبتها، وأخذت تتطور حتى انتهت إلى شكلها الحالي عام 1936 الغارق في الرأسمالية في أبشع صورها وهو «الاحتكار»، والذي أصبح اسم اللعبة وسجلت حقوقها شركة الألعاب الأمريكية «الإخوان باركرز»، والتي تحولت لاحقاً إلى اسم «هاسبرو»، وانتصرت النفس الأمارة بالسوء، التي لا يشبعها غير التراب، فكان هذا الجشع والطمع هو الذي أعجب به لاعبوها، وحقق لها شهرة تعدت الآفاق، فحققت نجاحاً سريعاً خارج أمريكا من خلال شركة إنجليزية حصلت على الحقوق في نفس الوقت، وهي النسخة التي دخلت سوقنا السعودي، إذ تحمل أسماء شوارع لندنية بينما النسخة الأمريكية تحمل أسماء من شتى المدن الأمريكية.
مشكلة المونوبولي أن ثمة لاعباً عصبياً يرفض الهزيمة، فعندما تقع طابته في خانة «ميه فير» المكلفة فيخسر ماله وأراضيه وفنادقه والذي فوقه والذي تحته للمحتكر المنتصر، فلا يلبث وقد أدرك حجم خسارته إلا ويقلب طاولة اللعب على الجميع، فتتحول اللعبة إلى عراك بالأيدي، وتبادل لكمات لا تنتهي إلا بتدخل خارجي ينهي النزاع.
المصدر: مجلة روتانا