واشنطن: محمد علي صالح
فجأة، استيقظ الصحافيون الأميركيون لغزو زملائهم الصحافيين البريطانيين للولايات المتحدة. في الشهر الماضي، نشرت صحيفة «واشنطن بوست» تقريرا طويلا عن الموضوع. وفي الأسبوع الماضي، نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» تقريرا طويلا عن الموضوع أيضا. وفي الوقت نفسه، اهتمت قنوات تلفزيونية رئيسة بالموضوع. وصار مذيعون أميركيون فيها يجرون مقابلات مع زملائهم المهاجرين البريطانيين. وعلق صحافيون بريطانيون من بين هؤلاء على هذا الاهتمام المفاجئ. وقالوا إنه ربما اهتمام سلبي أو إيجابي:
سلبي، ربما بسبب التغييرات الإعلامية الكبيرة، وزيادة إعلام الإنترنت، وخوف صحافيين أميركيين على وظائفهم.
وإيجابي، ربما بسبب انبهار أميركي تاريخي نحو كل ما هو بريطاني: العائلة المالكة، واللكنة، والجدية، بالإضافة إلى التراث المشترك في وقت صارت تنافس فيه الأميركيين شعوب آسيوية.
واحد من «المهاجرين البريطانيين» هو جون أوليفر، المذيع في برنامج «ديلي شو» (العرض اليومي)، وهو خليط من أخبار وفكاهة، ويقدمه جون ستيوارت. ولأن ستيوارت غائب في إجازة صيفية طويلة، حل محله البريطاني أوليفر، وفوجئ المشاهدون بلكنته البريطانية الثقيلة. ولد أوليفر في ليفربول، ويظل يشجع فريق كرة القدم هناك حتى وهو في أميركا.
وكتب ديفيد كار، في صحيفة «نيويورك تايمز»: «استغربنا ظهور بريطاني على شاشة برنامج أميركي عريق. لكن، يبدو أننا صرنا كلما نشاهد شاشة تلفزيون، نرى شخصا من تلك الجزيرة الصغيرة». وربما سيخلف البريطاني أوليفر الأميركي ستيوارت، مثلما خلف البريطاني بيرس مورغان الأميركي لاري كينغ، الذي قدم لثلاثين سنة تقريبا برنامج «لاري كينغ على الهواء»، وهو واحد من أشهر برامج المقابلات في تاريخ التلفزيون الأميركي. والتصق اسم البرنامج باسم صاحبه التصاقا وثيقا. والقائمة طويلة:
جيرالد بيرك، رئيس تحرير صحيفة «وول ستريت جورنال». مارك طومسون، مدير تحرير صحيفة «نيويورك تايمز»، وآن ونيتور، رئيسة تحرير مجلة «فوغ» للأزياء النسائية، وجوان كولز، رئيس تحرير مجلة «كوزموبوليتان» النسائية المثيرة، ودبورا تيرنس، مذيعة في أخبار تلفزيون «إن بي سي»، وبول لي، رئيس قسم الترفية في تلفزيون «إيه بي سي»، وكولين مايلر، رئيس تحرير صحيفة «نيويورك ديلي نيوز»، وغيرهم. غير أن ملكة الصحافيين البريطانيين المهاجرين هي تينا براون، التي هاجرت قبل ثلاثين سنة، وصارت رئيسة تحرير مجلة «فانيتي فير» الشهرية التي تركز على المشاهير، وصار واضحا أنها أنقذت الصحيفة التي يبدو أن الرتابة الأميركية كادت تقتلها، وقبل سنوات كتبت كتابا عن «ديانا: أميرة ويلز»، ثم انتقلت إلى صحيفة «نيويوركر»، وأيضا، رفعت مستواها. وفي الحالتين أضافت إثارة صحيفة، ليست مثل إثارة صحف بريطانية يومية مثل «ديلي صن» و«ديلي ميل» وصور بنات شبه عاريات، ولكن، «إثارة» بالمقارنة مع التقاليد الصحافية الأميركية «الأكاديمية». إثارة أو لا، كافأتها ملكة بريطانيا، ومنحتها سنة 2000 وسام «سي بي آي» (فارسة الإمبراطورية البريطانية). وفي سنة 2008، أسست موقع «ديلي بيست» (المتوشح اليومي) في الإنترنت، والذي صار من أشهر المواقع الإخبارية.
لماذا ينجح الصحافيون والصحافيات المهاجرون؟
قال ديفيد كار، صحافي في «نيويورك تايمز»: «يقول البعض إنهم مؤدبون بالمقارنة مع الصحافيين الأميركيين المباشرين. وأقول أنا العكس». واتفق معه زميله في الصحيفة، جيف دراير. وقالا ما معناه إن الأميركيين هم الأكثر تأدبا، حتى إذا منعهم ذلك من قول الحقيقة، بينما البريطانيون يركزون على الحقيقة. ولهذا، بسبب انتشار الإنترنت، وزيادة المنافسات الصحافية، صار القارئ الأميركي يريد الحقيقة، أو يريد أن يثق في البريطانيين الذين يتوقع أنهم يقولون الحقيقة أكثر من الأميركيين، ربما لأن البريطانيين أسياد اللغة الإنجليزية، وربما لأن عندهم ملكة في كل الأحوال، فيهم صفات تختلف عن صفات الأميركيين.
لهذا، ربما كل هذا الإقبال على الصحافيين البريطانيين هو أنهم «شيء مختلف». وطبعا، لا ينافسهم ألمان، أو فرنسيون، أو إيطاليون.
غير أن تحليل صحيفة «واشنطن بوست» ركز، ليس على أن الصحافيين البريطانيين فقط «شيء مختلف» (مثل ساندويتش مختلف، أو بيتزا مختلفة، أو قضاء إجازة في بلد مختلف)، ولكن لأن السياسيين البريطانيين أكثر نزاهة من السياسيين الأميركيين. ولهذا:
أولا: تكثر في أميركا تأثيرات لوبيات المصالح الخاصة وجماعات الضغط.
ثانيا: يتعرض السياسيون الأميركيون لضغوط هؤلاء، أو لرشوتهم.
ثالثا: لا يتابع ذلك الصحافيون الأميركيون، أو لا يملكون الجرأة، أو لأنهم مؤدبون. وهكذا، خلصت الصحيفة إلى أن الأميركيين لا يثقون في سياسييهم، وفي صحافييهم (أثبتت استطلاعات صحافية ذلك). ولم يبق لهم غير أولاد أعمامهم البريطانيين. وفي برنامج «توداي شو»، أثبت البريطاني أوليفر ذلك، وكرر أنه لا يثق في السياسيين الأميركيين. ودخل النقاش صحافيون بريطانيون يعملون في بريطانيا. وكتب واحد: «لا ندرس في كليات الصحافة الأميركية (الراقية). ولا نفخر بماجستير ودكتوراه. نتخرج في كلية آداب، ونذهب إلى وول ستريت (شارع الصحافة). ويقول لنا رئيس التحرير في أول لقاء معه: (لا تثقوا في أي شخص (سياسيين وغير سياسيين). كل شخص يريد مصلحته الخاصة. ولا تصدقوا الكلام عن مصلحة بريطانيا، ومكانة بريطانيا، وتاريخ بريطانيا».
وكما قالت صحيفة «نيويورك تايمز»، اشتهر الأميركي ستيوارت مقدم برنامج «ديلي شو» لأنه يقول أيضا إنه لا يثق في السياسيين، ويتهم زملاءه الصحافيين الأميركيين بأنهم «خنوعون» (طبعا، يقول هؤلاء إنهم «مؤدبون». ويفتخرون بأن الأميركيين يتفوقون على البريطانيين في أنهم أكثر تأدبا).
وهناك عوامل أخرى:
أولا: الخط الفاصل بين الصحافيين والشركات التي يعملون فيها ليس قويا مثل الذي في أميركا. لهذا، يهاجر صحافيون بريطانيون إلى أميركا ليخرجوا من قبضات أصحاب الصحف، ومديري الحسابات فيها. ثانيا: قلة كليات الصحافة في بريطانيا تجعل الصحافيين البريطانيين أقل «أكاديمية» من زملائهم الأميركيين. لهذا، يهاجر إلى أميركا الذين يريدون صحافة أكثر «أكاديمية» أو «جدية» أو، في الحقيقة، نزاهة.
ثالثا: رغم انتشار ظاهرة الصمت والتأدب وسط الأميركيين والبريطانيين، يبدو الأميركيون الأكثر تأدبا، ويفوز الصحافي الذي ربما لا يكون مؤدبا جدا. لهذا، يبدو أن النقاش يتلخص في كلمتين: «التأدب» أو «الجرأة». لكن، طبعا، يفسر كل جانب كل كلمة تفسيرا مختلفا.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط