كاتب و أكاديمي سعودي
القصة باختصار: خطيب جامع الفردوس في الرياض دعا في خطبة الجمعة الماضية على وزير الدفاع المصري السيسي، بوصفه خلف عزل الرئيس المصري السابق محمد مرسي، قائلاً: «اللهم اجتثَّ بشار والسيسي». بعض المصلين المصريين ممن يبدو أنهم من أنصار التغيير السياسي الأخير في مصر اعترضوا على هذا الدعاء، وحدث جدل انتهى -بحسب المقطع الذي شاهدته في اليوتيوب- بطرد مصلين سعوديين المصريين المعترضين من المسجد. كان منظراً مثيراً أن ترى مصلين يغادرون المسجد فيما الإمام يكبر إيذاناً ببدء الصلاة. زيادةً على الإثارة، كان منظراً حزيناً أيضاً. سآخذ هذه الحادثة الصغيرة لأُقارب مسألة أكبر، تلك هي المتعلقة باستخدام الأئمة والخطباء الصلوات والخطب من أجل حشد المصلين وراء منظوراتهم السياسية والفكرية والفقهية. ثمة فئات تعاني في السعودية من هذه المسألة ولم تتصرف مثل ما فعل مصريو مسجد الفردوس، بل ظلت صامتة تطوي المهانة والتجني.
ما حدث في جامع الفردوس ذكرني بحادثة جرت لصديق قبل عشرين عاماً. ففي بداية عقد التسعينيات من القرن الميلادي الماضي، قرر عوض القرني أن الحداثة الأدبية -المكتسحة للمشهد الأدبي وقتها- محض مؤامرة عقائدية على الإسلام. أصدر عوض كتاباً شهيراً معنوناً بـ «الحداثة في ميزان الإسلام»، وكان «ميزان الإسلام» هذا هو ميزان عوض القرني حقيقة، صدر الكتاب في عز سيطرة الخطاب الصحوي على العقول والأفئدة وكان إيذاناً بحملة شعبوية مضادة للفكر والفنون والآداب في السعودية لا تزال بقاياها قائمة إلى اليوم. المهم، أن كثيراً من خطباء الجمع وأئمة المساجد اقتنعوا بمقولات عوض القرني وصار يقيناً لديهم أن الحداثيين ليسوا إلا أعداء للدين، فصار من المعتاد أن تسمع الدعاء عليهم على المنابر ومن المحاريب. حدثت قصة في هذا السياق للصديق الشاعر الحداثي عيد الخميسي، ففي أول ليالي رمضان من سنة 1414 هـ بينما كان عيد رافعاً يديه يؤمِّن بخشوع وروحانية خلف الإمام في القنوت، انصدم عيد بدعاء الإمام على الحداثيين، يقول عيد: وجدت نفسي في ورطة، فأنا لم أؤمن على الدعاء بالطبع، لكن ذلك أعطاني إحساساً بأني مختلف عن الجماعة التي «كنت» أشاركها لذة العبادة. لقد أخرجه الدعاء من روح الاطمئنان بالانتماء إلى جماعة روحانية وذكَّره باختلاف ما بينه وبينهم، وطبعاً كان هذا الاختلاف مصطنعاً.
لا تعد قصة عيد فريدة في هذا السياق، فطالما سمع أصحاب الآراء المختلفة عن السائد الدعاء عليهم في منابرنا، أو الدعاء على تيارات فكرية لا يرون فيها عداءً للدين أو تعارضاً معه. مثلاً، الجمع التي تلت مطالبات نساء بالسماح للمرأة بقيادة السيارة قبل أكثر من عشرين عاماً، شهدت سيلاً من الدعاء على هؤلاء النسوة وعلى من يؤيدهن في مطالبهن تلك. بل أذكر أني استمعت لخطبة جمعة للشيخ عبدالرحمن الدوسري -رحمه الله- قبيل الانتخابات البرلمانية في الكويت يقول فيها إن من يصوِّت لغير مرشحي التيار الإسلامي في تلك الانتخابات داخل في حكم الآية القرآنية «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ».
قبل حوالي سنة وإبان الخلاف المصري المحتدم على الدستور بين الإسلاميين وخصومهم، كانت خطبة إمام الحي الذي أقطنه عن هذا الموضوع من منطلق أن صراع الفرقاء المصريين على دستورهم هو صراع بين الحق والباطل، بين الكفر والإيمان، ساق ذلك الخطيب وقائع مختلفة حدثت للرسول صلى الله عليه وسلم مع مخالفيه للإقناع أن فريق الإسلاميين في مصر يمثل الإسلام والفريق الآخر يمثل أعداءه!، كنت أتساءل وأنا جالس أستمع للخطبة ممنوعاً بمنطوق الحديث النبوي «من مس الحصى فقد لغى» من الانشغال عن الخطيب ولو بملاعبة شعر سجاد فرش المسجد، كنت أتساءل هل أصبحت مماثلاً لكفار قريش أو للمنافقين أو ليهود بني قريظة وبني النضير فقط لأني مقتنع بأن الإخوان في مصر كانوا يطبخون دستوراً يوافق منظورهم الشمولي للدولة المصرية؟!! هل الموقف السياسي البحت – للخطيب ولي- يعني أن واحداً منَّا يمثل تعاليم الله والآخر خارجٌ عليها؟!، كان ابني فيصل -8 سنوات- يجلس بجواري في المسجد مستمعاً لخطيب يقول له إن أباك يعارض موقف الإخوان من الدستور مثلما عارض المنافقون نبي الله في يثرب!، أي سعادة روحانية كنت أحسها في تلك اللحظات!، سأطرح سؤالاً سوسيولوجياً أعمق، ما هي الترتيبات التي أوصلت كلّاً منَّا – الخطيب وأنا- أن ننتهي في دار عبادة المسلمين -أي المسجد- إلى أن يكون موقفه السياسي حول حدث يدور في دولة مجاورة يعبِّر عن رأي الإسلام فيما موقفي يعبر عن رأي أعداء الإسلام؟. ثمة خطأ هنا، إما أن هذا الخطيب يريد أن يصادر الإسلام لصالح رؤيته السياسية أو أنني لا أنتمي لهذا المكان. بالطبع، الإجابة واضحة بالنسبة لي.
علامَ يدل ذلك؟ إنه يدل على أنه ليس من المسؤولية ولا الأخلاق للإمام، وهو يقود شعيرة جماعية من قبيل خطبة الجمعة أو دعاء القنوت، أن يدَّعي أن رأيه السياسي أو الفكري يعبِّر عما يحبُّه الله ويرضاه وأن رأي خصومه هو مما يخالف رضا الرب. هذا مطلب أخلاقي عادل للمصلين الذين يختلفون مع الإمام، إنه حق فردي للمأموم المختلف مع الإمام، اعتاد الناس على مناقشة الموضوع من زاوية عدم إقحام الدين في السياسة، ووضع الأمر في هذا السياق كفيل بإضعاف حجة أصحابها؛ لأن هذه المقولة تبدو وكأنها إبعاد للدين عن المجال العام، وبالتالي هي من مقولات أعداء الدين الذين يريدون أن يختصروه في ممارسات وطقوس فردية. أنطلق في رفضي لهذه الظاهرة من منطلق مختلف تماماً؛ إني أرفض أن تكون خطبة الجمعة أو الكلمة من على منبر المسجد أو الدعاء الجهري من الإمام مما يتعارض مع موقف أيٍّ من المأمومين. إذا كانت مؤهلات زيد أهَّلته لأن يتعيَّن إماماً لمسجد ما وآراء عمرو في السياسة والشعر والفن وعمل المرأة مما يخالف ما يراه زيد، فلا يحق لزيد هذا أن يستخدم المنبر والمحراب أدواتٍ لنبذ عمرو والتضييق عليه. ليكن هذا مبدأً أخلاقياً عاماً.
المشكلة أن هذا لم يتحول مبدأً أخلاقياً، ربما بسبب الطريقة السيئة التي يُقَولَب بها النقاش، أي إبعاد منبر الخطبة عن السياسة، الأصح: أن من جوهر السياسة مراعاة اختلاف المصلين وتنوعاتهم، وبالتالي عدم تحويل المنبر والمحراب لصالح فئة دون أخرى. عدم تحول هذه القضية لمبدأ جعلها عرضة للمزايدة حتى من قبل الأئمة أنفسهم. مثلاً: عارض إمام شهير إماماً شهيراً آخر لأنه حول خطبة الجمعة لصالح رأيه السياسي، ممتاز! المشكلة أن الإمام المعارض سبق له أن حول خطبة الجمعة للتأليب على أديب محلي، بحجة أنه معادٍ للدين. هذه الوقائع تبين أنه: انطلاقاً من احترام تنوعات آراء المصلين واحترام الشعيرة الدينية يتوجب عدم إقحام هذه الشعائر في أي أمر ينتهك رأي أو توجه أحد المصلين.
لعل العنف الذي حدث في مسجد الفردوس يساعدنا على تذكير الأئمة بأنهم يمثلون كل المصلين وأن عليهم -بالتالي- أن يعبِّروا عن هذا التنوع، لا أن ينحازوا -مستغلين تفويض المجتمع لهم بقيادة الشعيرة الدينية- لطرف من المصلين ضد آخر. لذا، أقول شكراً لمِصريِّي مسجد الفردوس في الرياض.
المصدر: صحيفة الشرق