كاتب وروائي إماراتي
الساعة الآن التاسعة مساءً بتوقيت دمشق, الجو في الخارج لطيف للغاية, ويميل للبرودة, رغم أننا في الأيام الأخيرة من شهر آب, الطريق من شقتي في أبو رمانه إلى مطعم الشاميات لا يستغرق أكثر من عشر دقائق مشياً على الأقدام. فبمجرد خروجي من العمارة أنعطف يساراً باتجاه مطعم مروش, ثم أنعطف يميناً باتجاه مطعم الدمشقية, ثم أنعطف يساراً مرة أخرى لأجد مطعم الشاميات على يميني.
أعتدت على تناول طعام العشاء في هذا المطعم, فمن خلاله تعرفت على السائق محمود, ذلك الشاب الطيب الظريف, الذي رافقني بعد ذلك في معظم مشاويري المسائية. وفيه تعرفت أيضاً على الحاج أبو إسماعيل, ذلك العجوز الطيب الكريم, الذي استضافنا في ظهيرة يومٍ جميل على مأدبة غداء في مزرعته بالغوطة.
أما الصغيرة ناريمان, فهي أجمل من عرفت في ذلك المطعم الصغير, المستطيل الشكل والذي تصطف طاولاته على يمين المدخل وعلى شماله. فتلك الطفلة ذات السنوات الثمان, كانت تمر بين الطاولات بحجابها الأبيض الطويل, الذي يزيد وجهها الملائكي براءةً وجمالاً. لتبيع بضاعتها من كتب الأذكار والمصاحف الصغيرة. كان حلمها أن تُصبح طبيبة, وكان ذلك حلم أمها أيضاً. وهو حلم مشروع جداً لأم كادحة وطفلة مثابرة.
دمشق, أو الشام كما يسميها أهلها تبعث في نفس السائح شعوراً بأنها مهد لحضارة ضاربة في القدم. تستطيع أن تلمس شواهدها في الكثير من تفاصيلها. جوامعها, أسواقها, طرقاتها, مقاهيها.
من المواويل الجميلة التي كنت أسمعها في مطعم الشاميات, موال للسيدة فيروز تقول كلماته : ( لقد كتبنا وأرسلنا المراسيلا, وقد بكينا وبللنا المناديلا, قل للذين بأرض الشام قد نزلوا, قتيلكم بالهوا ما زال مقتولا, يا شام يا شامة الدنيا ووردتها, يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا, وددت لو زرعوني فيك مئذنة, أو علقوني على الأبواب قنديلا ) .
أكثر من عشر سنوات مضت على زيارتي تلك لدمشق, وكنت أتوق لتكرار زيارتها لأراها وقد ازدادت حسناً وجمالا. لكن يبدو أن ذلك الحلم قد تبخر, وأن العروس أضحت عجوزاً ثكلى, تبكي أبناءها ليلاً ونهارا, وتزف جثامينهم في مواكب جنائزية لا تنتهي. ويبدو أن مياه العاصي قد تلونت بالدماء, ومياه بردى قد فاضت بالدموع.
فالشام ما عادت شامة الدنيا, والوردة ذبلت ويبست وأوشكت على السقوط, وقاسيون يبكي وينتحب على أطلالها, ومزارع المشمش والتفاح والكرز والعنب والخوخ والكمثرى تحولت إلى مقابر تضيق بموتاها. فسوريا بأكملها ودعت الفرح, وارتمت بجسدها المنهك في أحضان الحزن, فأوجعت قلوب جميع من مروا بها يوماً, وبادلوها العشق والغرام.
لا أدري ماذا حل بتلك الشقة التي سكنتها يوماً في أبو رمانه, ولا أعلم ماذا حل بالسائق محمود والحاج أبو إسماعيل. والصغيرة ناريمان لا أعلم عنها شيئاً ! , كم عمرها الآن ؟ , هل حققت حلمها المشروع وأصبحت طبيبة ؟ , هل ما زالت على قيد الحياة ؟
المصدر: صحيفة الرؤية