العلاقات الدولية، لا تقوم على أساس الندية والتكافؤ، بل محكومة بقوانين القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، حتى وإن نصّت البيانات والمواثيق بغير ذلك. وضمن هذا السياق، تقع المؤسسات الأممية، التي يفترض فيها أن تكون الناظم والراعي للسلام والأمن الدوليين، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة، والمؤسسات الأخرى، التي تقع تحت خيمتها.
شهد القرن الماضي، انبثاق مؤسستين أمميتين. الأولى عصبة الأمم المتحدة، وقد عبرت عن حقائق القوة، فيما بعد الحرب العالمية الأولى، وتأسست إثر مفاوضات فرساي، التي صاغت أطر ما بعد الحرب. وجاء تأسيس هذه المنظمة، ليشرعن مكاسب المنتصرين، وتحديداً بريطانيا وفرنسا. واتخذت هذه المؤسسة من مدينة جنيف بسويسرا مقراً رئيسياً لها، رغم أن اقتراح تأسيسها جاء من قبل الرئيس الأمريكي ويدرو ويلسون.
المؤسسة الأخرى، هي هيئة الأمم المتحدة، وكانت أحد تعابير النظام الدولي الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية، التي تصدرت الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفييتي، قائمة المنتصرين فيها. وكان محتماً أن يتوافق تأسيس المنظمة الأممية الجديدة، مع حقائق القوة التي نتجت عن الحرب، وأهمها امتلاك أمريكا والسوفييت السلاح النووي، الذي كشف تدمير هيروشيما ونجا زاكي اليابانيتين عن قوته التدميرية الماحقة. فكان تشكيل هيئة الأمم المتحدة، استجابة للمتغيرات السياسية التي أفرزتها الحرب، على الساحة الدولية. والتصديق على الجوائز والغنائم التي اكتسبها المنتصرون بالحرب. وقد تركت تلك النتائج بالفعل، بصماتها على تشكيل المؤسسة الدولية الجديدة.
لم يكن غريبا، وفقا لحقائق القوة الجديدة، أن تنعقد مباحثات تأسيس هيئة الأمم المتحدة، بمدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، على ساحل المحيط الهادي، بالجزء الغربي من الكرة الأرضية، وأن تكون مدينة نيويورك المقر الرئيسي للمنظمة، وأن تكون تكاليف الجزء الأكبر لميزانيتها من الخزانة الأمريكية.
ومنذ ذلك التاريخ، سالت مياه كثيرة، وبقيت هياكل الأمم المتحدة ثابتة من غير تطوير. إن التغير في موازين القوة الدولية، يقتضي مراجعة مستمرة وجادة، وإعادة هيكلة للمؤسسات الناظمة للعلاقات الدولية، وعلى رأسها هيئة الأمم المتحدة. فمجلس الأمن الدولي، على سبيل المثال، وهو أهم هيئة في الأمم المتحدة، ضم أربعة من أصل خمسة من الأعضاء الدائمين لمجلس الأمن: الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والصين، وهم جميعاً من كتلة واحدة، هي الكتلة الرأسمالية الغربية، حيث كانت حكومة الصين الوطنية بقيادة شان كاي شيك تابعة عسكرياً وسياسياً للولايات المتحدة، وحظيت بحمايتها حتى نهاية الستينات، حين استعادت الصين الشعبية مقعدها الدائم بمجلس الأمن.
بمعنى آخر، الاتحاد السوفييتي السابق هو العضو الدائم الوحيد في مجلس الأمن الدولي، خارج تلك الكتلة. وقد تم تجاهل القارة السوداء وأمريكا الجنوبية، من العضوية الدائمة بالمجلس رغم أهميتهما الاستراتيجية، وثقلهما السكاني. وهكذا فإن الاعتبار الأول، في القسمة، هو حصول الدول المنتصرة في الحرب، على حصة الأسد، بالمنظمة الدولية، التي أنيط بها صيانة السلم والأمن في العالم، واستبعدت تماماً دول العالم الثالث ولم تحظ بدور مؤثر في هذا المجلس.
بالنسبة للاتحاد السوفييتي، القوة العظمى المنافسة آنذاك، فوجد أن حصوله على مقعد واحد دائم في عضوية المجلس مسنود باستخدام حق النقض، متى ما تعارضت قرارات مجلس الأمن مع مصالحه وسياساته وسياسات حلفائه مبرراً كافياً لغض الطرف عن ثغرات كثيرة في البنية الهيكلية للتشكيل الدولي الجديد.
لقد طرح عدد من دول العالم الثالث، كالهند والبرازيل، هذه المسألة عدة مرات داخل أروقة الأمم المتحدة. بل إن ألمانيا، طالبت بحصولها على عضوية دائمة بمجلس الأمن بسبب تفوقها الاقتصادي. لكن شيئاً جدياً في هذا السياق، لم يتخذ حتى الآن.
في عام 1990، أدت تلك الضغوط إلى طرح هذه المسألة، ضمن برنامج القمة الألفية الذي عقد بمقر الأمم المتحدة، في نيويورك، الذي نص على تطوير هيئة الأمم المتحدة، بما يتناسب مع المتغيرات والتطورات على الساحة الدولية، لكن النتائج جاءت مخيبة للآمال، ولم يحدث أي تغيير في هيكلية المنظمة. وجرت في حينه، إصلاحات طفيفة في طريقة أداء هيئة الأمم المتحدة، لم تتعرض جوهرياً إلى هيكليتها.
لقد عانت هيئة الأمم المتحدة، من فشل مستمر، بسبب هيمنة الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن، في قضايا كثيرة، أهمها الحد من التسلح، ومنع انتشار السلاح النووي، والقضاء على الفقر، نتيجة للخلافات الحادة بينهم، والاستخدامات المتكررة لحق النقض. ولن يكون العالم أكثر أمناً وسلاماً، إلا بالتسليم بحقائق القوة الجديدة، وبالمساواة والتكافؤ والندية بين الأمم.
المصدر: الخليج