خاص لـ هات بوست:
تعاني كثير من العائلات المهاجرة إلى السويد وألمانيا وكندا، من هاجس انتزاع أطفالها منها إن هم تعرضوا لسوء المعاملة من قبل الأهل، فاختلاف الثقافات يبدو أحياناً غير مفهوم من قبل قوانين الدول المضيفة، إذ فيما تتيح ثقافتنا التعامل مع أطفالنا باعتبارهم أملاك شخصية، لا تقبل قوانين حماية الطفل التعرض له بالضرب أو الإهانة أو سوء المعاملة، مما يؤدي أحياناً إلى تولي عائلة أخرى رعايته، وسط شعور الأهل الأصليين بالظلم والإجحاف رغم إنذارهم عدة مرات قبل تطبيق القانون، وهم لا يجدون غضاضة في العنف الأسري، فالأب في مجتمعاتنا يضرب الأم والأم بدورها تضرب الأبناء وهذا أمر عادي ومشروع، لا يرتبط بالحب والكره، وقد يضربون طفلهم لكنهم حتماً يحبونه ولا يريدون ابتعاده عنهم، سيما أنه سيذهب لترعاه عائلة “مسيحية” ستطعمه لحم الخنزير وتجعله يشرب الخمر، حتى لو كانت تلك العائلة مؤهلة لتربية الطفل ورعايته، ولطالما سمعنا وقرأنا في السنوات القليلة الماضية عن شكاوى وقضايا تتعلق بهذا الأمر، وتستهجن قسوة تلك المجتمعات “اللا إنسانية”.
أما في مجتمعاتنا “المثالية”، ففي حين تشكو شوارع بلداننا من أطفالها، وتستغيث بحثاً لهم عن ملاجىء تؤويهم، نسمع عن عائلة مسيحية مصرية حرمت من الأطفال، وجدت طفلاً ملقى أمام باب الكنيسة، أخذته وربته واعتنت به بكل حب لمدة أربع سنوات، ربما لم يكن تصرفها قانونياً، لكن القانون المصري جاهز لـ “إصلاح” الموضوع، ليأتي و يرمي الطفل في دار الأيتام، باعتبار كل مولود “مسلم” حتى يثبت العكس.
ثمة ما يفيد أن هناك من أقارب العائلة من وشى بها، طمعاً بالميراث لا أكثر، ففي كل الملل هناك شريرون، إنما ما يستحق الوقوف عنده هو تلك القوانين العرجاء، التي تمكن كل شرير من الاتكاء عليها، والأنكى أنها تتكىء على “الإسلام” زوراً وبهتاناً.
لست هنا بصدد نقاش صحة حديث “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”، إذ أن المشكلة أولاً في تعريفنا للإسلام، وهو بموجب كتاب الله الإيمان بالله واقتران هذا الإيمان بالعمل الصالح {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت 33)، ووفق هذا التعريف لا يقبل الله ديناً آخر، وتلك هي الفطرة التي فطر الناس عليها، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم 30)، فكل الملل ضمن الإسلام أصلاً وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62) واضح، والله تعالى أوضح أننا نخرج من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئاً، لا إسلام ولا غيره {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً}(النحل 78) ولا يمكننا اعتبار أن التربية التي يتلقاها الإنسان ضمن عائلة “مسلمة” بالهوية هي أفضل من تلك التي لدى عائلات أخرى، سيما إذا كان مقياسنا هو القيم الأخلاقية التي يبنى عليها الصراط المستقيم، والدليل ما نجده لدى كل شعوب العالم من إنسانية، لنقل أنها تساوي ولا تقل عما لدى شعوبنا “المسلمة”، ونحن نعلم أنها تتجاوزها كثيراً في نواحي عديدة.
من جهة أخرى تعتمد القوانين في بلداننا على ما يسمى “الشريعة الإسلامية”، لا على كتاب الله، الذي لو تمعنت فيه لوجدته بالغ الدقة، فرّق بين الولادة كمفهوم بيولوجي يشمل كل الكائنات العضوية، وبين الأبوة كمفهوم إنساني، فنحن أبناء آدم في الإنسانية، ويمكن أن يكون للإنسان أبناء بالتربية ليسوا من صلبه، وإلا لما قال {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} (النساء 23)، وإبراهيم عليه السلام تربى لدى أب كافر بالله، لكنه دعا له بالمغفرة، أما تحريم التبني فيستند إلى قوله تعالى {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} (الأحزاب 5) فيما يخص قصة زيد بن حارثة مولى الرسول (ص)، حيث كان زيد شاب متزوج معروف الأب، ليس طفل صغير مجهول النسب، ولا يخفى على القارىء أن “أقسط” اسم تفضيل، أي هناك قسط في عدم دعوتهم لآبائهم، وهناك ما هو أقسط، وكون الأبوة تربية فالرضيع حديث الولادة لا يعي أباه أصلاً، أما الخوف من اختلاط الأنساب فاليوم باتت الفحوص الجينية في متناول اليد، يمكنها تمييز الأولاد والأخوة.
خلاصة الأمر أن انتزاع طفل من عائلته التي تولت تربيته منذ كان رضيعاً وخصته بالرعاية والحنان هو ظلم، وإلقاؤه في دار الأيتام هو ظلم أشد مهما كانت المبررات، أما هذه العنصرية التي نتحلى بها كـ “مسلمين” فإنها تخرجنا من دائرة الإسلام ذي الرحمة، لتجعلنا في دائرة أخرى قوامها القسوة والجبروت.
إن كنا نطمح لتغيير نحو الأفضل في مجتمعاتنا، علينا أن نعمل على إيقاظ الوعي للمطالبة بقوانين تنظر بعين الرحمة والعقل، لا تستند إلى نصوص صماء تبث الفرقة بين الناس وتزيد الشروخ فيما بينهم.