
كاتب و ناشر من دولة الإمارات
خاص لـ هات بوست:
“الإنسان ليس سوى ما يصنع بنفسه” ..جان بول سارتر
هل المعرفة والتعليم تذكرة صعود حقيقية؟ وهل تكفي الشهادة وحدها كي نعبر نحو طبقة أعلى؟ السؤال في ظاهره بسيط، لكنه في جوهره يشبه متاهة لا يخرج منها المسافر بسهولة. في أعماقه يختبئ هاجس قديم: مكانك ليس ثابتًا. هناك صوت خفي يذكّرك دائمًا أن قيمتك تُقاس بالمسافة التي تقطعها عن بيتك الأول.
من وعد “تحقيق الذات” ولدت فكرة الصعود الطبقي، ليست مجرد ثروة أو وظيفة عليا، بل وهم بالتحرر وخلاص يُمنَح لنا بشرط أن نصعد.
الصين قدّمت أول نسخة من هذا الوعد. أتذكر حين زرت معبد كونفوشيوس في بكين، وإلى جانبه الكلية الإمبراطورية التي تحوّلت اليوم إلى متحف يعرض تاريخ الامتحانات القديمة. بين الألواح الحجرية وأدوات الحبر، بدا لي وكأن المعرفة هناك كانت جواز العبور الأول إلى السلطة. كان ذلك إعلانًا مبكرًا بأن الحبر قد يتفوق على الدم، وأن الكفاءة يمكن أن تهزم السلالة.
لكن السؤال الأعمق هو: لماذا نريد أن نصعد أصلًا؟ أهو خوف من أن يبتلعنا مكاننا الأول إلى الأبد؟ أم هو توق إلى اعترافٍ لم نحصل عليه ونحن في الأسفل؟ ربما نصعد بحثًا عن أمانٍ نفتقده، وعن تقديرٍ نتوهم أنه لا يتحقق إلا حين نعلو. وأحيانًا نصعد كي نلحق بغيرنا في سباق صامت، وأحيانًا أخرى لنكسر ظلّ الأصل (من أنت؟ ومن أين أتيت؟) الذي يطاردنا. الصعود في النهاية ليس مجرد حركة على السلّم الاجتماعي، بل محاولة للهروب من قوانين البداية التي لم نخترها، ومن القلق العميق أن نظل أسرى المكان الذي وُلدنا فيه.
غير أن الدافع إلى الصعود ليس واحدًا. عند بعض الأفراد تتحول الرغبة إلى شهوة حضور، نزعة لا تهدأ إلا بأن يُرى الإنسان في موضع أعلى، كأن المكانة الاجتماعية هي كل الحكاية ومرآة الوجود كله. وهنا معضلة أخرى: من لديه شهوة الحضور دون إمكانيات الحضور، فيضيع في سلّم الارتقاء. في المقابل، هناك من يرفض هذا السباق أصلًا، ويجد في طبقته ما يريد، متصالحًا مع واقعه، مكتفيًا بقناعة الرضا.
الفيلسوف الفرنسي بيير بورديو (1930 – 2002)، أحد أبرز علماء الاجتماع في القرن العشرين، يرى أن الأرض مائلة منذ البداية. الصعود ليس سباقًا عادلًا، بل رحلة في بيئة صعبة. تحتاج فيها إلى رأس مال لا يُكتب في الشهادات: لهجة، ذوق، شبكة معارف… وحتى “الهابيتوس”، ذلك الشبح الذي يسكن الجسد ويذكّرك من أين أتيت. حتى في صعودك تسمع دائمًا خطوات أصلك خلفك.
وعندما تصل، يبدأ فصل آخر. المفكر الفرنسي ميشيل فوكو (1926 – 1984)، المعروف بدراساته عن السلطة والمعرفة، يذكّرنا أن الشهادة ليست ورقة فحسب، بل طقس اعتراف وختم عبور. لكن هذا العبور لا يعني الاطمئنان. بل العكس، هناك يبدأ خوف من نوع جديد. تشعر كأنك دخيل على دور لم تحفظ نصه جيدًا. أي هفوة قد تفضحك. مكانتك الجديدة لا تستند إلى أرض صلبة.
وهنا تتكشف المفارقة: الصعود الطبقي قد يكون عبئًا اجتماعيًا أكثر من كونه خلاصًا فرديًا. السعي إلى الحرية قد ينتهي إلى قفص بلا أبواب، ومواصلة البحث عن الذات قد تقود إلى اغتراب أعمق عنها.
في النهاية، السؤال الحقيقي ليس: هل وصلت؟ بل: من الذي أصبحت بعد كل هذا الصعود؟