كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
كتبت الأسبوع الماضي عن دراسة الباحث السعودي نواف عبيد الغارقة في التشاؤم حيال الربيع العربي، التي نشرها بيلفر سنتر في جامعة هارفارد حيث يعمل عبيد باحثاً. اخترت دراسته وطرحتها هنا للنقاش لأنه يعبّر عن كثيرين قلقين حيال الربيع العربي، بعضهم قلق خشية أن تؤدي حال التخبط التي تمر بها دول الربيع إلى خسارة فرصة أخرى لنهضة العرب، والبعض الآخر يفضل أن يقرأ «الفشل» في ارتدادات الربيع لأنه يرى فيه تهديداً لمصالحه.
دراسة نواف عبيد التي عنونها «صيف عربي ساخن» تحوم حول فكرة «أن التفاؤل حول ثورات الصحوة العربية يجب أن يقاس بنحس الأوضاع السياسية التي يمكن أن تحبط نظام الدولة الوطنية في شكل لا يتكامل مع نهوض عالم عربي جديد»، وبالتالي تدور دراسته حول ما سمّاه «النحس» الذي يحيط بمختلف الدول العربية التي تعاني بالفعل من صعوبات حادة بعضها أمني كـ(سورية)، وبعضها الآخر عميق يهدد حتى هويتها كـ(العراق)، والبعض الآخر يمر بمجرد مكايدات سياسية عبثية كـ(مصر)، فإن هناك من يرى في ذلك «النحس» مجرد مخاض صعب لثورات مستحقة وولادة عالم عربي جديد، ولكن لننظر في أشكال «النحس» المحيطة بشتى الدول العربية، بغية تحليلها واتقاء شرّها.
«لقد فشل اليمن في أن يتحد في دولة وطنية واحدة بإخاء ومساواة بين كل أبنائه»، ولذلك كانت الثورة، بل ربما بعد أن تكتمل دورة تأسيس اليمن الجديد وفق خطة مجلس التعاون الخليجي، يتمكن اليمنيون من البحث بحرية عن صيغة أخرى تجمعهم، كالفيديرالية مثلاً، تحديداً في ما يخص أهل الجنوب، بل إن في الجنوب بخاصة هويات لا يمكن سبكها جميعاً في صيغة «الجنوب»، فحضرموت غير عدن مثلاً، ولكن لا أحد يريد فتح هذه الملفات الحرجة، الجميع يعلم أن «الحراك الجنوبي» حركة احتجاج على تردي الأوضاع وهيمنة يمن علي عبدالله صالح، ولكن لا توجد هوية جنوبية واحدة، ومن الجيد أن يشير السيد عبيد في دراسته إلى أن ثورة الحوثيين في «شمال الشمال» والنزعة الانفصالية في الشمال هما من «توليد» النظام اليمني القديم والذي عاش «يميّز» بين الأقاليم والقبائل والأفراد، فلا يستبعد في نهاية دراسته عن اليمن أن «ثمة احتمالاً قوياً بأن يتفكك اليمن إلى ثلاثة أقاليم في نهاية العقد» ومرة أخرى أكرر، ولذلك جاءت الثورة اليمنية لبناء يمن جديد، كما أن تقسيم اليمن لا ينبغي أن يكون كارثياً إن تم بتوافق شعبي، الحدود في الدول الديموقراطية (الديموقراطية هي محور الثورات العربية الحديثة) لا تعني شراً محضاً، بخاصة بين الدول المتماثلة اقتصادياً، فهي تتلاشى باعتماد اقتصاد السوق وحرية التنقل، كالسودان مثلاً الذي ارتاح من حرب أهلية طاحنة استمرت عقوداً بانقسامه إلى شمال وجنوب، وبينما يرى عبيد – ومثله كثير – في ذلك دليلاً على فشل الدولة، فإن من الممكن أن ينظر إليه كبداية لنجاح دولتين.
لقد اقتنع السودانيون الشماليون والجنوبيون بأنهم بحاجة إلى بعضهم بعضاً، ويتعزز ذلك كل يوم، وبدا واضحاً في زيارة الرئيس عمر البشير لعاصمة جنوب السودان قبل أسبوعين مُنهياً توتراً استمر شهوراً بين البلدين بعيد انفصالهما.
في سورية يصدر الباحث عبيد أحكاماً قاسية، ومرة أخرى ليس وحده في ذلك، إذ استمعت إلى محاضرة الأسبوع الماضي لباحث سوري يرى أن «سورية التي نعرفها قد انتهت»، ولكن من الضروري التذكير بأن التاريخ حال مستمرة من التحولات، وأن ما يجري حالياً في بلاد الشام على رغم وقعه وألمه الشديدين ما هو إلا صورة من تحولات عابرة لما تستقر بعد.
يقول عبيد: «سينهار نظام الأسد في النهاية، ومع سقوطه ستختفي كل وظائف الدولة»، ويضيف: «الدولة السورية تتداعى في شكل يمنع إعادة إصلاحها من جديد». ثم يعقّب بتوقع آخر لا يقل سوءاً: «ستكون إمكانات الدولة السورية الجديدة ضعيفة جداً في استعادة السيطرة على الشمال، حيث الأكراد الذين يمثلون من 10 إلى 15 في المئة من السكان، وطالما شعروا بالتهميش والذين أتموا إلى حد كبير تأسيس حكومتهم الخاصة».
أفضّل أن أنظر إلى مثل هذه التوقعات كتحذيرات وليس كحقائق محسومة. فحدود سايكس بيكو على سوئها صمدت لعقود، وإعادة رسمها من جديد فاتحة لفتن لن تنتهي، كما أن سورية ليست جزيرة منعزلة عن محيطها، وثمة دولتان مستقرتان لا تريدان فتح صندوق مفاجآت الأقليات والأقاليم والأعراق والمذاهب، وهما السعودية وتركيا، وستقفان بشدة أمام أية مغامرة من كردي أو علوي أو إيراني أو إسرائيلي يريد إعادة رسم حدود منطقة الهلال الخصيب.
الأفكار المتشائمة المحذرة نفسها تنتشر بين صفحات الدراسة، حول مصر والعراق والسودان والبحرين وغيرها من الدول، ولكن التاريخ يستند إلى الماضي أيضاً، ويتأثر بالأقوياء الذين ينظرون الى المصلحة الكلية الكبرى، وهم ثلاثة: السعودية ومصر وتركيا، ومن حسن حظنا أنهم إلى الاستقرار والحكمة أقرب، وبالتالي يستطيعون لجم احتمالات الفوضى المستندة إلى واقع الحال المتردي، والتي يمكن أن تشجعها وتغذيها قوتان مهمتان أيضاً في المنطقة وهما إسرائيل وإيران، وتلك قصة أخرى.
المصدر: صحيفة الحياة