داعبت فكرة تصدير النفايات مخيلة اللبنانيين فترة. يليق ببلاد الأرز ان تكون خالية من المهملات وأن توكل عبء معالجة بقاياهم المنزلية الى من يمتلك وقتاً وموارد يصرفها في علاج ما تخلف من استهلاك اللبنانيين سلعهم ومآكلهم وشتى امور حياتهم.
اول ما حملته الإشاعات عن التصدير جاء بعد اسابيع قليلة من اندلاع أزمة النفايات في تموز (يوليو) الماضي. قيل يومها ان لبنان سيصدر نفاياته الى ألمانيا والسويد. اعتز اللبنانيون مثلما اعتزوا يوم استقبلوا الانتداب الفرنسي بأبيات الزجل عن «فرنسا أم الدنيا عموم. اعتزوا يا لبنانيي». صحيح ان بلدك سيقع تحت الاحتلال، لكنه الاحتلال الفرنسي المتحضر. وصحيح انك عاجز عن ايجاد حل لمشكلة ببساطة مشكلة نفاياتك المنزلية لكنك ستصدرها الى دولتين غربيتين صناعيتين.
لم يدم اعتزاز اللبنانيين طويلاً. لقد تبين أن السويد وألمانيا تستوردان نفايات لكن ضمن شروط صارمة لاستخدامها لتوليد طاقة نظيفة. وبين النفايات التي تسمح لها الدولتان المذكورتان بدخول اراضيها وبين حالة النفايات اللبنانية، بون شاسع تجوز مقارنته بالبون الفاصل بين لبنان وكل من السويد وألمانيا.
ثم جاء من يقول ان زبالتنا ستُصدر الى دول افريقية. تقبل اللبنانيون هذه النكسة على مضض. لا بأس. فإن كنا لسنا في مصاف الدول الأوروبية الصناعية، نبقى في كل الأحوال افضل من الدول الإفريقية وأكثر تقدماً وسنرسل لها نفاياتنا لتدفنها في اراضيها الشاسعة. ثم إن أفضالنا سبقت نفاياتنا الى تلك البلدان البائسة وصدّرنا لهم ثلة من المهاجرين الذين حققوا نجاحات باهرة في عوالم التجارة والاقتصاد والأعمال. لكن، لسوء الحظ، تبين أن ما من دولة افريقية على استعداد لإيواء نفاياتنا.
في هذه الأثناء ظهرت شركات غامضة بدأت تروّج فكرة «الترحيل» الى جهة مجهولة وانتشر خبر تحميل مخلفات اللبنانيين ضمن حاويات وإرسالها بحراً من دون ان يفصح اي من مروجي هذه الأخبار عن الوجهة الأخيرة للنفايات. وبعد المرور في مقرات شركات وهمية تتخذ من منازل ريفية في قرى هولندية مقرات لها، ورد ان روسيا تبرّعت بقبول مهملات بلاد الأرز وأن الإجراءات القانونية والإدارية قطعت مراحل متقدمة.
الخيبة كانت وفية في صداقتها للبنانيين. ذلك أن الإجراءات الإدارية المذكورة تكشّفت عن عملية تزوير تشبه تهريب سلع من خلال الرشوة واستغلال الفساد في لبنان وروسيا التي تدخلت هيئاتها الرسمية والبيئية للقول ان ما من شيء حقيقي في الصفقة المأمولة التي كانت ستكلف اللبنانيين اضعاف ما سيكلفه اي مشروع للتخلص من النفايات محلياً.
تضرّر «الإيغو» اللبناني من تكرار الفشل. وبعد جولة على الدول الصناعية ودول العالم الثالث وعلى المقاطعات الروسية، وجد اللبنانيون انفسهم وحيدين مع نفاياتهم. الى اين المفر؟ الإمارات اللبنانية المتعايشة ترفض مخلفات بعضها بل تسعى الى إلقاء ما تنتجه من مهملات في الإمارات المنافسة، ما ينعكس سلباً على التعايش والوحدة الوطنيين وعلى علاقات الطوائف الكريمة. إذاً، لا بد من العودة الى فكرة المطامر «الوطنية والصحية».
تشي هذه الفضيحة اليومية المستمرة منذ ثمانية شهور ليس فقط بالمدى الذي بلغه تفكّك الدولة اللبنانية وهزال سلطتها وإمساكها بسيادتها وبالانتصار الضمني (وربما النهائي) للطوائف والمناطق والعائلات على الدولة، بل أيضاً بالمدى الخطر الذي وصلت إليه عزلة اللبنانيين عن العالم، كآليات عمل ومؤسسات وأجهزة رقابية وقانونية، قبل أن يكون مظاهر وتقليداً شكلياً وسطحياً. وعلى هذه العزلة يُبنى مستقبل الأجيال.
المصدر: صحيفة الحياة