}} روح مدينة أبوظبي، تختصرها أحياناً حكاية تلخصها، أو شخصيات مبثوثة محبتها في فضاء المدينة، وقد تتسلل الحكاية إلى المخيال الجمعي، كحكاية فعل الخير العام، أو حكاية العمل الإنساني أو حكايات أخرى، قد تجسدها غابة نخيل وروائح عشب، أو حالة طمأنينة وأمان، أو ظاهرة عيش مشترك إنساني، متعدد الهويات.
}} وحينما يحضر اسم الشيخ نهيان بن مبارك، يحضر شيء من هذه الروح، وترد في أذهان الناس سيرة طيبة تجترح المآثر، ووجه مشرق، وصدر رحب، وحسن المعشر، وصاحب ذهنية حرة، وكيمياء حضارية وحوارية، مع ثقافات متعددة.
}} يعرفون اسمه في عالمنا العربي، وفي خارجه، كمسؤول ومثقف، وكصاحب مشروع ثقافي وإنساني وتربوي تنويري، كثير الاشتغال بقضايا المجتمع، وبالتراحم والتلاحم المجتمعي، ويعيش هذه القضايا بعقله وقلبه، ويعمل لها بدأب.
}} يعرفه أبناء وبنات الإمارات أنموذجاً للبر بالوالدين، ويعود المرضى وكبار السن، ويتابع أحوالهم، ويدعم الأعمال الخيرية، ويلبي احتياجات مؤسسات أهلية، وجامعات، ومراكز ثقافية وتعليمية. ويرعى العديد من الأنشطة العلمية والاجتماعية والفنية والمؤتمرات، ولا يرد دعوة لفرح أو احتفال صغير أو كبير.
}} وأسأله: كيف يجد الوقت، لأداء كل هذه الالتزامات والأنشطة الرسمية والأهلية والاجتماعية؟ يبتسم، وتشع عيناه ذكاء وحمداً لله، وأسارع في الإجابة، نيابة عنه: إنه «تنظيم الوقت».. أليس كذلك؟
}} منذ أيام، سألته: كم عدد ساعات الطيران شهرياً، التي تقضيها في التنقل بين الإمارات، جيئة وذهاباً، لافتتاح مؤتمر أو مشاركة في أعراس أو عزاء أو عيادة مرضى؟
}} فاض وجهه ضياءً، وقال: «والله ما عددتها».. لكنه أضاف: «تصعد وتهبط طائرة «الهليوكبتر»، في الليلة الواحدة ربما ست أو ثماني مرات، ومرة تهبط على الرمل، ومرة في موقف سيارات أو في ملعب مدرسة.. وهكذا.. لكنني أشعر بسعادة ورضا في تأدية هذه الواجبات».
}} رافقته ذات ليلة، لحضور حفل زفاف في رأس الخيمة، وفوجئت بالطائرة تهبط في ضواحي دبي، وتنقلنا سيارة إلى إحدى كليات التقنية، فيلقي خطاباً أمام الطلبة، ثم يصعد إلى الطائرة متوجهاً إلى رأس الخيمة لحضور حفل الزفاف، وبعد نحو نصف ساعة تنقلنا سيارة لتقديم واجب عزاء، لنعود بعدها إلى الطائرة لتهبط من جديد في ساحة مستشفى خاص يقع في شارع الشيخ زايد، وتنقلنا سيارة لزيارة مرضى في مستشفى آخر.. وفي نهاية هذه الرحلة.. عدنا إلى أبوظبي، بعد رحلة صعود وهبوط وطيران استمرت نحو ست ساعات.
}} وتتكرر مثل هذه الرحلات، عند «أبي سعيد» بمعدل لا يقل عن خمس مرات أسبوعياً.
}} سألته قبل أيام: أين تجد نفسك، في التعليم أم الثقافة؟ فقال: «هما مترابطان، «التعليم هو ضمان المستقبل»، وقد وفرت الدولة الإمكانات اللازمة للنهوض بالتعليم، وكذلك فإن «الشباب ثروتنا»، والثقافة هي أرقى نشاط ذهني عرفته البشرية، وأهم ما فيها أنها مبادرة وليست ردود أفعال.. ولمست في ثنايا حديثه هموماً ثقافية كثيرة، وبخاصة في هذه المرحلة الراهنة، والتي تحتاج إلى إمكانات مادية كثيرة، ومرونة في الحركة بعيداً عن بيروقراطية المؤسسات، وتركيز على ثقافة الوقاية والاستباق، والخروج من الثقافة «الموسمية» قصيرة العمر.
}} خبرت في نهيان ذهنية حرة، تنزع إلى الحرية، حرية التعبير وحرية الاعتقاد، والبعد عن التفكير الانفعالي، وقدرة هائلة على الارتجال في الخطابة والتحدث أمام نخب ثقافية وأكاديمية وإعلامية، من مجتمعات وثقافات متنوعة.. تزوره في مجلسه اليومي المفتوح، ويحرص كثير من الزوار والمشاركين في مؤتمرات تنعقد في الإمارات، ورسميون ورجال دين وفنانون، ورجال أعمال، رجالاً ونساءً، على لقائه في مجلسه، أو على مائدة الغداء في يوم الجمعة، أو في خيمته الرمضانية.
}} يمتلك ثقافة موسوعية، في العديد من المجالات وهو قارئ نهم لمصادر الفكر والثقافة، وعلوم السياسة والاجتماع ولمدارس تربوية متنوعة، ويرى في الفنون والموسيقى فطرة إنسانية تنكر التجهم والخصام مع جماليات الحياة، وتسهم في ترقية السلوك الإنساني، والارتقاء بعواطف الناس.
}} وكم مرة رافقته في حضور حفلات موسيقية عالمية زائرة للإمارات، مشجعاً وراعياً لها، واستمعت يوماً لموسيقى وغناء كلمات لعمر الخيام، من تسجيل في سيارته الخاصة، وهو يقودها بنفسه، ويشير إليها بأنها «تُنمِّي الحواس الجمالية في الإنسان».
}} طوّر التعليم العالي، وأنقذ التعليم والتربية من التردي، بعد أن غرقت المناهج في فترة غبراء، في أوضاع سطحية، وغلو وتجهم وانغلاق وتعصب. وها هو اليوم يحمل مسؤولية الثقافة وتنمية المجتمع ورعاية الشباب، وهي مسؤولية كبرى لا تُلقى إلاّ على أكتاف قامات عالية، وفي مرحلة حرجة، فسد فيها حتى الملح، واضطربت خلالها مجتمعات، وانفجر ما تراكم من المكبوت المذهبي والإثني و«الهوياتي».
}} أراه الآن، في حالة تنبه شديد لمسألة ثقافية معنية بالقيم في المجتمع الإماراتي، وعلى المستوى العربي، وبخاصة قيم التسامح والحوار بين الثقافات وأتباع الديانات والمعتقدات المعتبرة، في مواجهة الغلو والتعصب ونبذ الآخر والإقصاء.
}} وكم سعدت، وتفاخرت، ونهيان يخاطب مؤتمر حوار الأديان، على هامش قمة العشرين، المنعقدة في أستراليا، ويركز على معاني التسامح ومفهوم الحوار بين المختلفين في المعتقد والرأي واللون والثقافة والعرق.
}} وكان حديثه، بلغة إنجليزية راقية، تمكن من ناصيتها في كلية ماجدالين بجامعة أكسفورد.. ومن خلال فهم عميق لذهنية وعقلية وخطاب المتلقين المشاركين في هذا المؤتمر الدولي.
}} منذ عشرين عاماً، ونهيان يستمتع باستخدام جهاز «الملقن الإلكتروني» المسمى (Teleprompter) ويُلقي من خلاله خطبه وكلماته.
}} وفي معظم المؤتمرات والندوات والمناسبات العلمية والثقافية، لم يتعطل الجهاز يوماً، رغم وجود قصص محرجة تعرض لها رؤساء دول ورؤساء شركات كبرى ونجوم في المجتمع أثناء قراءتهم للنصوص الإلكترونية المرئية.
}} نهيان.. أحبَّ الناس، فأحبوه، وقامت علاقة وجدانية بينه وبينهم…. وسُخِّرت هذه المحبة المتبادلة لصوغ قدوة أمام الشباب والأجيال الطالعة.. تصب في نهاية المطاف في تلاحم المجتمع.. وأن يظل «البيت متوحداً».
المصدر: الخليج