قرأت مقالا في أحد الصحف الإلكترونية يتساءل كاتبه عن سبب عدم اعترافنا بأن النصوص الدينية هي سبب العنف التي يبرر بها أصحابها سفكهم لدماء غيرهم مثل ما حدث في مذبحة الجريدة الفرنسية “شارل إبدو” والتي راح ضحيتها ١٢ قتيلا أحدهم شرطي فرنسي “مسلم” ، فخطرت لي وقفات مع هذا الكلام الذي قد يكون دافعه تحمس فريق اللادينيين لأي فكرة تشكك في مصداقية النصوص الدينية عن طريق ربطها بالإرهاب المعاصر، واذا ثبت ذلك فسوف تتساقط النصوص الدينية والتي ستتهاوى من ورائها فكرة الأديان السماوية ، لكن مهلا ، هل فعلا النصوص الدينية تتحمل المسؤولية المباشرة عن كل الشرور التي تحصل في العالم ؟ أم أنها تُستخدم كشماعة كما يُستخدم غيرها من الشماعات ؟
صحيح قد يكون التوقيت غير مناسب لطرح مثل هذا الموضوع في مقابل التطرف الديني المتفشي عند بعض من ينتسبون إلى الدين ، فالواجب قلع جذور التطرف الدموية لبسط سلطان الأمن قبل الشروع في حوار عريض مع كافة فئات المجتمع في مكامن الإرهاب ، وصار من نافلة القول القول بأن جميع المتحدثين باسم الأديان الرسميين ينبذون التطرف والإرهاب ، وصار لا حاجة لتكرار مقولات التسامح والتعايش السلمي لأنها صارت فرض عين على كل فرد من أفراد المجتمع ، بل و صار تكرار ضرورة التفريق بين النص الديني وفهم النص الديني يثير الملل والضجر عند الجميع بما فيهم كاتب هذا المقال ، مع ذلك قد يكون لهذه الوقفات غير المرتبطة بحدث ما أهمية في المستقبل القريب…
أولا : أكثر المذابح والمجازر والحروب في القرن العشرين والتي راح ضحيتها قرابة ال٥٠ مليون نسمة لم تكن أسبابها دينية ، فالاتحاد السوفييتي قبل الحرب العالمية الثانية مارس سفك الدماء بنصوص ماركسية ولينينية وستالينية لا يختلف عاقل في كونها غير دينية بالمعنى الكلاسيكي ، إلا إذا اعتبرنا الإلحاد دين اللادينية ، قامت هذه المذابح باسم طبقة البرولتاريا الذين كان قادتها أبشع وأشد فظاعة من البرجوازيين “الأرثوذودكس” ، ثم قام الشيوعيون أنفسهم بالتبرأ من أعمال ستالين الإجرامية في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي في عام ١٩٥٦ ، فهل يعقل أن نحمّل كل شيوعي أو اشتراكي جريرة ما قام به ستالين الذي اعتنق الماركسية ؟ بل هل يصح عقلت أن نحمّل ماركس – مؤسس الفكر الشيوعي – المسؤولية المباشرة لكل ما ارتكب من جرائم وحروب دموية باسمه ؟ ولو كان حيا ورأى ما اقترفه ستالين ولينين ألن يبصق في وجههما دفعة واحدة لأنه ما شان الشيوعية في العالم أحد بمثل ما شانها هذين الإثنين ؟ فلماذا نحمل النص الديني مسؤولية حماقة بعض من يتمسح به ؟
ثانيا : أثناء الحرب العالمية الثانية ذبح الناس بعضهم بعضا بسبب تصارع النفوذ والقوة والسيطرة ، ولم يحتج طرف ما إلى نص ديني يبرر غزو جاره وإسالة دمه واغتصاب عرضه وهتك شرفه وتدمير بلده ونهب ثرواته ، مع العلم أن أغلب أطراف الصراع كانت تحمل الدين نفسه وأحيانا تحمل نفس المذهب العقائدي ، فأين النص الديني الذي برر أشنع حرب عرفتها البشرية ؟
ثالثا : فلنفترض بعد استقراء النصوص الدينية إن بعض الديانات كالبوذية لا تحتوي نصا مقدسا يحض على العنف لا من قريب ولا بعيد ، إذاً ما الذي برر للرهبان البوذيين – الذين لا يملكون نصا دينيا يبرر عنفهم – على ارتكاب مجازر مروعة ضد المسلمين ؟ أليس الدافع في ذلك دينيا مع عدم وجود النص الديني ؟ إذاً بإمكاننا ببساطة الاستنتاج أن العنف ليس بحاجة لنص ديني ليكون حجة منطقية أمام أتباعه ، فالنص الديني أو الدافع السياسي أو الاقتصادي قد يستخدم بكل بلاغة وانسيابية ليبرر ارتكاب العنف.
رابعا : لو افترضنا أن دينا مثل دين الإسلام يعتنقه خُمس البشر اليوم يحض على العنف ، فكم عدد الذين يمارسون العنف من أتباعه ؟ ٠،٠٠١٪؟ ٠،٠١٪ ؟ فلنكن أكثر كرما ونجعلهم ١٪ ، ماذا عن ال٩٩٪ منهم والذين لا يمارسون العنف رغم أنهم يتلون نفس النصوص الدينية ؟ لماذا لم يفهموا النص الديني مثلما فهمه المتطرفون ؟ ولماذا يعمم البعض الشذوذ ويترك القاعدة ؟ بل ولماذا يطالب البعض ال٩٩٪ الاعتذار في كل مرة يرتكب أحد ينتسب إليهم عملا أحمقا تبرأ الجميع منه بكل ما أوتوا من قوة ؟ إذا فلنطالب بابا الفاتيكان بالاعتذار عن جرائم هتلر وموسيليني و كل مسيحي ارتكب جريمة بحق الإنسانية لأنهم أبناء دينه وهو يتحمل مسؤولية أمراضهم النفسية ، قبل أن أنسى فلنرجع إلى بداية المقال ولنتذكر أن هناك شرطيا فرنسيا مسلما سال دمه في مجزرة الجريدة الفرنسية ، ولا ننسى أن هناك مسلمين في العراق وسوريا ولبنان يقتلون باسم دينهم.
خامسا : فلنفترض أن الدول الإسلامية القديمة قد توسعت بسبب نصوص دينية ، إذا أهملنا الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمقارنات المغلوطة أحيانا بين عصرنا وعصرهم – مثل ما يقول عالم الاجتماع علي الوردي – إذا أهملنا ذلك كله ، أوليس هناك دول توسعت وتمددت أفقيا وطوليا على حساب دول أخرى وهي تحمل عقائد بوذية وهندوسية وكونفوشيوسية – إذا افترضنا جدلا أنهم لا يملكون نصوصا تدعو إلى العنف – ومع ذلك فقد كان لأتباعها دوافع دينية لبسط نفوذهم على غيرهم ، فحصل هنا قتل مع عدم وجود نص ديني ولكن بمبرر ديني ، وهذا يثبت مرارا وتكرارا أنك لست بحاجة لنص ديني لتكون إرهابيا أو استعماريا ، لكنك لن تعدم الوسيلة اذا كنت ميكافيلليا للوصول لغايتك بنص ديني أو بعدمه.
سادسا : لماذا لا نلتفت إلى أسباب العنف الحقيقية لدينا ونضعها بكل جدية على طاولة النقاش ؟ أليست التنشئة والتربية والخلفية الاجتماعية والأوضاع السياسية الموقودة والمستعرة في المنطقة تلعب – غالبا – الدور الأكبر في تفريخ الإرهابيين ؟ لماذا لم نرى ظاهرة الإرهاب في دول إسلامية مثل ماليزيا بينما رأيناها في بيئات أخرى تشترك جميعها في نفس مقومات الإرهاب ؟ مع العلم أن المسلم الماليزي و”المسلم” الداعشي يقرءان نفس النص الديني لكن شتان بين الثرى والثريا ، وهنا سيحدثنا علماء الاجتماع حتى الصباح عن الدوافع النفسية التي تحرك من يقومون بالعمليات الإرهابية بعيدا عن تركيز المشكلة على النص الديني الذي تتم قراءته بنظارة فصّلها الداعشي تفصيلا يناسب تكوينه النفسي المتطرف ، فهل النص الديني مسؤول عن ذلك ؟ وهذا ينسحب على كل من قتل نفسا باسم الدين والأمثلة على ذلك لا تنحصر (الحروب الصليبية / قيام إسرائيل / الحروب الأهلية اللبنانية والإيرلندية إلخ إلخ )
سابعا : هناك نصوص دينية تحض على القتل والقتال والمدافعة ، لم ينكر ذلك أحد ، لكن لماذا نسلخ هذه النصوص من سياقها التاريخي حيث كانت موجهة لأناس ظُلموا وقُتلوا وهُجروا بسبب دينهم ؟ فهل نريد من النص الديني أن يطلب منهم حين يحمى الوطيس وتنهال عليهم خوازيق العدو وسيوفه أن يسلموا خدودهم الحمراء لظالميهم وقت المعركة ولا يدافعوا عن أنفسهم ولا عن أعراضهم و أموالهم ؟
فلنكن واقعيين قليلا ولنتساءل ماذا سيفعل اللاديني حين يهجم عليه أحد اللادينيين ليقتلع عينيه ؟ هل هو بحاجة إلى نص ديني يبرر له قطع يد من يريد اقتلاع عينه أو حتى قتله ؟ أوليس من حقه أن يدافع عن نفسه بكل ما أوتي من قوة حتى يسيل دم من أمامه؟ فسواء وُجد النص الديني أم لم يوجد فإن الفعل الدفاعي سيكون واحدا ، لكن الإشكال حصل عندما اعتقد صاحب النص الديني خطأً أن له حق ممارسة هذا الفعل الدموي في كل لحظة راق له ذلك ، وليس هذا خطيئة النص الديني بل هو خطيئة من لم يُجد فهم الدين ، تماما كمن بالغ في أخذ حبوب البنادول فسبب له ذلك فشلا في الكبد استدعى نقل كبد جديد له ، فهل الخلل في البنادول أم الخطأ فيمن أساء فهم حقيقة البنادول ؟
خاص لـــ (الهتلان بوست)