رئيس مركز الأهرام للترجة والنشر ، حاصل على دكتوراة الفلسفة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة 1992
يجد أوباما صعوبة كبيرة في شرح سياسته الخارجية الجديدة رغم أنه ليس أول رئيس أميركي يُقدم على إجراء مراجعة جذرية لدور واشنطن العالمي سعياً إلى تخفيف أعبائه وخفض كلفته. فقد فعلها قبله، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ثلاثة رؤساء لمعالجة تداعيات التورط في حروب مكلفة، هم أيزنهاور بعد الحرب الكورية، ونيكسون عقب حرب فيتنام، وبوش الأب بعيد انتهاء الحرب الباردة.
لم يجد أولئك الرؤساء صعوبة مماثلة لتلك التي تواجه أوباما الآن وتخلق فجوة في علاقات واشنطن مع بعض أهم حلفائها في شرق آسيا، وكذلك في الشرق الأوسط. وربما يعود هذا الفرق إلى أن أوباما يبدو واضحاً على صعيد مراجعة السياسة التي ورطت الولايات المتحدة في حربي أفغانستان والعراق المكلفتين. لكنه يفتقد الوضوح الكافي فيما يتعلق بالتوجهات الاستراتيجية الجديدة، ولا يجيب بالتالي على السؤال المحوري المطروح داخل الولايات المتحدة وفي بعض الأوساط خارجها: إلى أي مدى سيصل الحذر اللازم لتجنب الانخراط في حروب جديدة؟ وهل يبلغ حداً يشجع قوى دولية وإقليمية مناوئة على زيادة نفوذها وتحقيق مكاسب على حساب حلفاء للولايات المتحدة؟ وهل يعني ذلك إمكان تخلي أميركا عن هؤلاء الحلفاء بشكل أو بآخر؟ وإذا لم يكن، فكيف تطمئن واشنطن حلفاءها القلقين من احتمال تخليها عنهم؟
لقد بدأ أوباما ولايته الأولى قبل نحو خمس سنوات بنقد لاذع للسياسة الخارجية التي اتبعتها إدارتا بوش الابن، وتعهد بمراجعة جذرية لهذه السياسة التي أسماها «سياسة القوة العمياء». وسعى بالفعل على مدى خمس سنوات إلى تقييد استخدام القوة وتجنب الانخراط في حروب جديدة. وكان حريصاً على إبراز هذا التطور في السياسة الخارجية الأميركية عندما ألقى خطاب حالة الاتحاد الأخير في 28 يناير الماضي، فقال: «حين تسلمت الرئاسة كان 180 ألف أميركي يخدمون في العراق وأفغانستان. أما اليوم فقد عادت قواتنا كلها من العراق. وعاد أكثر من 60 ألفاً من أفغانستان تمهيداً لإنهاء أطول حرب أميركية».
غير أنه إذا كان سهلا وقف استخدام ما يعتبره أوباما قوة عمياء، فالأمر ليس كذلك بالنسبة لطرح بديل يحافظ على الحضور الدولي اللازم لحماية مصالح دولة عظمى، بحيث لا يؤدي الاستغناء عن سياسة القوة إلى انسحاب قد يقود إلى سياسة عزلة جديدة يدور حولها جدل واسع في الأوساط السياسية والإعلامية الأميركية الآن.
لم يقدم أوباما وأركان إدارته بعد تصوراً واضحاً لسياسة خارجية أميركية جديدة لا تعتمد على «القوة العمياء» ولا تقود في الوقت نفسه إلى انحسار الدور العالمي للولايات المتحدة. فليس صعباً الحديث عن طريق ثالث بين التدخل المفرط والعزلة الزائدة. غير أنه من الصعب تحديد معالم هذا الطريق بدقة ووضوح، خاصة حين تكون هناك قوى دولية وإقليمية في مناطق حيوية تنتظر أي انحسار في الدور الأميركي لكي تتمدد وتملأ الفراغ المترتب عليه.
ولم يتضمن خطاب حالة الاتحاد الأخير ما يساعد في انقشاع الغيوم التي تتكاثف في سماء سياسة أوباما، خاصة منذ أواخر العام الماضي بسبب التغير الذي حدث في الموقف الأميركي تجاه الأزمة السورية وأزمة البرنامج النووي الإيراني واللامبالاة التي أبدتها واشنطن إزاء اتجاه الصين إلى استعراض «عضلاتها» العسكرية -بعد الاقتصادية- في شرق آسيا.
ومن الطبيعي أن يثير تأخر إدارة أوباما في تحديد اتجاهات سياستها الخارجية، والوسائل الجديدة التي ستعتمد عليها بديلا عن «القوة العمياء»، أسئلة ملحة لدى المعنيين بمستقبل العالم والنظام الدولي في السنوات المقبلة.
ومن الضروري أن تقترن هذه الأسئلة بمخاوف مشروعة لدى حلفاء الولايات المتحدة أو بعضهم من أن تؤدي النزعة الانسحابية الأميركية، إذا زادت عن الحد المعقول، إلى تغيير موازين القوى في غير مصلحتهم في مناطق حيوية من العالم. فليس مفهوماً على سبيل المثال ما يعنيه حديث أوباما عن التوصل إلى توازن جيوسياسي في منطقة الخليج يؤدي إلى نوع من التنافس بدون إشعال حروب دموية مباشرة أو بالوكالة (في المقابلة التي أجراها معه ديفيد ريمينك في مجلة «نيويوركر» مطلع 2014). وليس غريباً أن يثير هذا الغموض النظري، مثله مثل السياسة الفعلية، قلق بعض حلفاء الولايات المتحدة من أن يؤدي هذا التحول الأميركي إلى تشجيع إيران على معاودة سياسة التمدد الإقليمي التي عبّر عنها بطريقته قائد «فيلق القدس» التابع لـ«الحرس الثوري» الجنرال قاسم سليمان في تصريحات أدلى بها يوم 16 فبراير الجاري وتباهى فيها بأن «إيران تتمتع الآن بقوة حقيقية وبوجود فعلي في شرق البحر المتوسط»، وبأنها «لم تتصرف يوماً وفق مبادئ أعدائها».
ورغم حديث أوباما المتكرر عن أن اتفاق جنيف النووي الأخير (5 + 1) يوقف تقدم برنامج إيران النووي للمرة الأولى منذ عقد كامل، تصر طهران على أن هذا الاتفاق لا يحدد سقف التخصيب وأن هذا السقف أمر سيادي لا يمكن أن نتنازل عنه. كما فشلت واشنطن في إقناع طهران بأن تقوم بدور إيجابي، أو حتى أقل سلبية، تجاه الأزمة السورية التي يعتبرها الإيرانيون معركة مصيرية بالنسبة لمشروعهم الإقليمي. وبينما فشل مؤتمر «جنيف-2» في غياب أي ضغط أميركي على نظام الأسد، بدأ هذا النظام سياسة المماطلة التي كانت متوقعة في تنفيذ التزاماته المتضمنة في اتفاق تدمير سلاحه الكيماوي، ولا يخفى أن تراجع أوباما عن قراره توجيه ضربة محدودة ضد مواقع عسكرية واتصالية تابعة للنظام السوري، اكتفاءً باتفاق تدمير الكيماوي، ساهم في تشجيع هذا النظام على إبداء مزيد من الصلف في مؤتمر «جنيف-2».
وربما يكون قلق حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا أشد من نظرائهم في الشرق الأوسط، لأن انحساراً زائداً عن الحد في الدور الأميركي يمكن أن يشجع الصين وكوريا الشمالية على تهديدهم. وقد ألمح رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى هذا القلق دون أن يصرح به في حديثه خلال المنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس الشهر الماضي عندما قال إن الصين بدأت تتصرف مثل ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى. ويبدو أنه أراد أن ينبّه إلى أن الصين قد تمثل خطراً على العالم إذا دخلت السياسة الأميركية في مرحلة سبات جديدة يحذّر منها أيضاً عدد متزايد من مراكز التفكير في الولايات المتحدة. لذلك أصبح السؤال عن كيفية طمأنة واشنطن حلفاءها القلقين ملحاً بانتظار زيارة أوباما المقررة إلى الرياض ورحلة وزير خارجيته المحتملة إلى شرق آسيا في الشهر القادم.
المصدر: الاتحاد