يؤكل البصل ويزرع في الكثير من الدول أكثر من أي نوع آخر من الخضروات، لكنه نادرا ما يلقى الكثير من الاستحسان، لكن الوقت قد حان للاعتراف بأهمية هذا النبات اللاذع المسيل للدموع والإشادة بفوائده، حسبما يرى مارك بروسفيتز الكاتب الصحفي في بي بي سي.
في أرشيف بابلي قديم لجامعة “ييل” الأمريكية توجد ثلاثة ألواح طينية كان لها حظها من الشهرة، إذ أنها أقدم كتب الطهي على الإطلاق.
نقشت هذه الألواح بالكتابة المسمارية الدقيقة، ولم تبح بأسرارها حتى عام 1985، أي بعد مرور نحو أربعة آلاف عام منذ كتابتها.
كان عالم الآشوريات والطاهي الفرنسي جان بوتيرو، وهو مزيج لا يمكن للمرء أن يجده سوى في فرنسا، هو الرجل الذي فك أسرار هذه الألواح.
اكتشف الرجل “وجبة غنية جدا وتنم عن مهارة فائقة ودقة في الطهي “وتحتوي على العديد من النكهات التي نعرفها جيدا في يومنا هذا، وبالأخص أحد النكهات”.
يقول بوتيرو “يبدو أنهم شغوفون للغاية بكل فرد من عائلة البصل!”، في إشارة إلى الحضارة البابلية القديمة.
علمت بلاد ما بين النهرين ليس فقط زراعة البصل، لكن أيضا الكراث والثوم.
“طريق الحرير”
وهذا الاهتمام بالبصل يشاركه معظم الطهاة الذين جاءوا بعد بوتيرو، ومن النادر أن يخلو كتاب طهي من ذكر البصل.
إنه أكثر المواد الغذائية انتشارا في العالم، ووفقا لتقديرات الأمم المتحدة فإن ما لا يقل عن 175 دولة تزرع البصل، وهو أكثر بكثير من ضعف معدلات زراعة القمح الذي يمثل أكبر محصول في العالم من حيث الكمية.
وعلى عكس القمح، فإن البصل يدخل استخدامه في جميع الأكلات الرئيسية، ويمكن القول إنه بالفعل المكون الغذائي المشترك بين دول العالم.
وتقول خبيرة تاريخ الأغذية لورا كيلي مؤلفة كتاب “سيلك رود غورميت” أو (أغذية طريق الحرير): “نعتقد أنه بناء على التحليل الجيني، فإن البصل نشأ في وسط آسيا، ولذا فإنه كان بعيدا جدا بالفعل عن بلاد النهرين خلال الفترة التي استخدم فيها هذا النبات، وهناك دليل قديم على استخدامه في أوروبا بداية من العصر البرونزي.”
وأضافت: “إنه نبات رائع جدا، وقد يرى شخص ما أنه جميل للغاية، ثم يكتشف بعد ذلك أنه نبات مفيد من الناحية الغذائية، إنه نبات يسهل زراعته للغاية. وهناك فرصة جيدة جدا للنجاح ويحتوي على عدد قليل جدا من الآفات.”
بدون شك، كان الناس يتاجرون في البصل على طول “طريق الحرير” وهو ما يعود تقريبا إلى عام ألفين قبل الميلاد، تقريبا خلال الفترة التي كانت تكتب فيها بلاد ما بين النهرين وصفاتها الغنية بالبصل، بحسب كيلي.
لكن في وقتنا الحاضر فإن مستوى تجارة البصل محدود على مستوى العالم، ويجري استهلاك نحو 90 في المئة منه في بلاد المنشأ، وهذا ربما يفسر السبب في عدم إيلاء اهتمام كبير بشكل عام لهذا النوع من الخضروات في معظم أجزاء العالم.
ليبيا الأولى
وتستحوذ الصين والهند على أعلى معدلات إنتاج واستهلاك للبصل، وتنتج الدولتان نحو 45 في المئة من الإنتاج العالمي من البصل الذي يفوق 70 مليون طن.
لكن الدولتين ليستا من بين أكثر الدول تناولا للبصل وذلك استنادا إلى كمية البصل التي يتناولها كل فرد من السكان، وتأتي ليبيا في صدارة الدول إذ تناول كل فرد في المتوسط 33.6 كيلوغرام من البصل في عام 2011، وفقا لتقديرات الأمم المتحدة.
وقال لي صديق من ليبيا “إننا نستخدم البصل في طهي كل شيء”. بل إن البعض في ليبيا يعتبر المعكرونة أو الكسكس بالبصل الطبق المحلي الشعبي.
وتشير كيلي إلى أن الكثير من الثقافات في غرب أفريقيا تأكل “كميات كبيرة من البصل”، لكن ليس أي منها في قائمة الأمم المتحدة للدول العشر الأكثر تناولا للبصل على مستوى العالم.
وتوضح كيلي أن “هناك طبق في السنغال يسمى ياسا، يحتوي على كميات هائلة تعادل كمية اللحوم أو الخضروات، إنه (طبق) مليء بالبصل”. وبحسب بيانات الأمم المتحدة، فإن مواطني السنغال تناولوا 21.7 كيلوغرام من البصل لكل فرد في عام 2011، وهو أكثر مرتين من البريطانيين الذين يتناولون نحو 9.3 كيلوغرام لكل فرد.
وفي فرنسا، التي يعتبر البريطانيون أن مواطنيها يستهلكون البصل بكثرة، بلغت معدلات تناول البصل مستوى متواضعا بلغ 5.6 كيلوغرام لكل فرد.
وهناك دولة واحدة يحظى فيها البصل باهتمام كبير، وإذا ارتفع سعره سريعا، تكون هناك مشكلة.
قضية شائكة في الهند
وفي غضون شهر من أدائه القسم كرئيس جديد للوزراء في الهند في مايو/أيار الماضي، تدخلت حكومة نارندرا مودي لمنع تصدير البصل بأسعار رخيصة، خشية ارتفاع أسعاره في السوق المحلية. وقبل أربع سنوات، أوقفت الحكومة جميع صادرات البصل بل إنها استوردت كميات منه لمنع احتجاجات الشوارع.
وقالت برانجول فانداري كبيرة الخبراء في بنك “اتش اس بي سي” إنه في الاقتصاد الهندي “لا توجد علاقة سببية واضحة، لكن حسبما يقال فإن ارتفاع أسعار البصل بالفعل أصبح قضية انتخابية مهمة من آن إلى آخر”.
ربما كان أبرز تأثير للبصل في عام 1998، حينما أرجع خبراء هزيمة حزب بهارتيا جاناتا الحاكم آنذاك في انتخابات ولاية نيودلهي إلى ارتفاع أسعاره.
وترى فانداري أن السبب في الأهمية السياسية للبصل ترجع إلى أن البصل هو “جزء لا يتجزأ من حياة كل عائلة هندية تقريبا.”
وأضافت: “باستثناءات قليلة، يوجد البصل في كل وجبة هندية، ونتيجة لذلك، فإن تغيير أسعار البصل يشعر به المواطن العادي كل يوم.”
تخزين البصل
ويقول سام ريكس، الذي يعمل في زراعة البصل وتعبئته وتوريده بالقرب من كولشستر في مقاطعة ايسيكس ببريطانيا: “يستمر الحصاد من يوليو/تموز وحتى سبتمبر/أيلول، ونعلم أن البصل نضج حينما يبدأ في الميل لأسفل.”
وأضاف: “يخزن البصل في جو دافئ عند درجة 28 سلزيوس لثلاثة أسابيع حتى يجف وحتى يكتسب اللون الذهبي، ثم يجري تبريده تدريجيا حتى درجة صفر تقريبا، وبعد مرور ثلاثة أسابيع من الحصاد، يكون من الضروري زراعة البصل. إنه سباق مع الزمن لمنع ذلك.”
يحفظ نبات البصل بعد ذلك في أجواء شبه مجمدة في مستودعات كبيرة لشهور متتالية.
وبالرغم من أن هذا الإجراء ليس رخيصا، فإنه يساعد في ضمان طرح نحو 90 في المئة من المحصول في السوق.
وتساعد إجراءات تحسين التخزين وتربية نباتات البصل القادرة على تحمل أجواء الطقس الصعبة المنتجين مثل ريكس على الاقتراب من تحقيق هدف يتوقون إليه بشدة، وهو القدرة على تخزين البصل مباشرة حتى بدء حصاد العام التالي.
وقال ريكس: “في العام الماضي وحتى منتصف يوليو/تموز كان لدينا (محصول) بصل حصدناه في سبتمبر/أيلول”.
واستورد ريكس كميات من البصل من نيوزيلندا وأسبانيا لثلاثة أسابيع فقط في العام.
لكن نشاط التعبئة يستمر 363 يوما من 365، ويغلق فقط في يومي عيد الميلاد وعيد الفصح.
وكما أن البصل هو أكثر مكون غذائي مشترك في العالم، فإنه أكثر عنصر مشترك بين الثقافات.
المصدر: BBC Arabic