كاتب وناشط حقوقي، راعي منتدى الثلاثاء الثقافي، وعضو المجلس البلدي بمحافظة القطيف
لم تكن الطائفية بأشكالها المختلفة وليداً جديداً أبداً في هذه المرحلة التي نمر بها، بل إنه يتم إعادة إنتاجها وقت الحاجة وبأنماط وأشكال مختلفة حسب الظروف السياسية والاجتماعية. وعندما نتحدث عن الطائفية المذهبية في منطقة الخليج تحديداً، فإنها بالتأكيد قد اختلفت ظهوراً وكموناً بناء على الظرف السياسي الذي تمرّ به المنطقة.
يتولّد شعور عند البعض بأن المشكل الطائفي هو نتاج لصراع مذهبي بين مكوّنات المجتمع في الخليج، متناسين مراحل التعايش والانسجام بين هذه المكوّنات طوال فترات زمنية طويلة لم تكن الطائفية عنواناً لأي أزمة بينها، وهي مراحل في الغالب نتج عنها نشاط وطني واجتماعي مشترك أدى إلى بروز قوة أهلية ضاغطة ومتماسكة.
لعلنا نتفق جميعاً على أن جذر الأزمة الطائفية المذهبية يكمن في استمرار العودة إلى مادة التراث الإسلامي التي بقيت من دون تمحيص أو إصلاح أو مراجعة، والتي لا تزال تشكل المادة الخام لتأجيج فتيل الصراع السني – الشيعي، وإعادة إنتاجه بصورة متجدّدة معتمدة على المفاهيم والإشكالات والتناقضات ذاتها، على الرغم من بروز مبادرات إصلاحية محدودة التأثير لم تتعمق في الوجدان الشعبي وتقدم معالجات جادة ونهائية.
ولعل الكثير أيضا من أبناء هذا الجيل – بما في ذلك النُّخب السياسية والثقافية – بدأت متابعتها لبروز الأزمة الطائفية في المنطقة بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979م، التي يرى أكثرهم بأن الأزمة الطائفية في الخليج تصاعدت حينها، بينما جذورها ضاربة في أطناب العقلية المجتمعية لقرون عديدة.
العلاقة المتوتّرة التي خلقتها ظروف التغير السياسي بعد قيام ثورة إيران وتعزّز توجهاتها المذهبية، هيأت ظرفاً مواتياً في المنطقة الخليجية لإثارة الملفات الطائفية كوسيلة لمواجهة هذا التغيّر الذي وجد له استجابة وتفاعلاً في المنطقة الخليجية بصورة عامة. من هنا بدأت التوترات المذهبية في المنطقة تأخذ أبعاداً إعلامية وسياسية وثقافية واجتماعية تعزّزت بنشوب الحرب بين الدولتين الجارتين العراق وإيران، والتي استمرت لثماني سنوات متواصلة، وكانت منطقة الخليج ساحة متأثرة بها ومتفاعلة معها.
لقد نتج عن تصلّب النظام السياسي العربي وجموده طوال نصف القرن الماضي وعجزه عن احتواء وإدماج مختلف المكوّنات الاجتماعية فيه مزيد من استمرار حالة الإقصاء والتهميش لهذه المكوّنات التي وجدت في الأزمات السياسية التي تمرّ بها المنطقة فرصة للتعبير عن وجودها ومطالبها وتطلعاتها، وهذا ينعكس على معظم الدول العربية… حتى المتوافقة مذهبياً.
فما إن جرى التحوّل السياسي في العراق عام 2003م بعد إسقاط نظام صدام حسين، وقيام نظام سياسي مختلف ساهم في إشراك قوى سياسية واجتماعية جديدة في الحكم، وما تبعها من تطورات مهمة في المنطقة، حتى بدأت ملامح أزمة طائفية جديدة تطل على المنطقة العربية، وفي منطقة الخليج بشكل أقوى. فالنظام الجديد في العراق أصبح حليفاً لإيران، ما عزّز الهوية المذهبية فيه، وجاءت ردود الفعل مرة أخرى بإعادة إثارة الملف الطائفي واستخدامه كأداة لإضعاف القوى الناشئة وتمدّدها. ومنذ ذلك الوقت وحتى بداية «الربيع العربي» عام 2011، جرى استخدام المذهبية الطائفية بأبشع صورها، حيث تحوّلت هذه المرة إلى وسيلة للتحريض على ممارسة العنف وتجييش المقاتلين ودفعهم للمواجهة والمشاركة في التفجيرات الانتحارية على أساس مذهبي. وتصاعد ذلك أيضا بعد الحرب التي اندلعت في لبنان بين «حزب الله» وإسرائيل عام 2006، حيث جرى النظر إلى أن حصيلتها ستعزّز الاستقطاب المذهبي في المنطقة.
الحراك الشعبي المطلبي الإصلاحي في سوريا، الذي بدأ عام 2011 متزامناً مع أحداث «الربيع العربي»، ما أسرع أن اختُطف من قبل القوى الإقليمية – عربية وغير عربية – في المنطقة، وبعدها الدولية، ليتحوّل إلى مادة صراع نفوذ إقليمي، وعزّز ذلك التوجهات الطائفية التي أصبحت سمة بارزة في هذا الصراع الدائر.
من خلال هذا العرض السريع يتّضح أن الموضوع المذهبي يتصاعد مع بروز أزمات سياسية في المنطقة، ويخبو أيضا في أوضاع الهدوء النسبي، ما يعزّز القول إن العامل السياسي يلعب دوراً واضحاً في تأجيج المشكل الطائفي واستخدامه كإحدى أدوات الصراع السياسي. بالطبع، يستند في الغالب إلى ما هو موجود من تراث لديه القابلية للتوظيف السياسي، وإلى أوضاع سياسية متأزمة كغياب دساتير وأنظمة تعزز المساواة والمواطنة للجميع.
وأكرّر هنا بأن المأزق الطائفي الذي نعيشه في المنطقة سيبقى قائماً ومتواصلاً ما لم يجرِ معالجة ومراجعة وتنقيح النصوص التراثية بكل أمانة وإخلاص وجدية، وما لم يتم إصلاح النظام السياسي العربي كي يكون قادراً على استيعاب المكونات الاجتماعية ومعالجة جميع أشكال التمييز بينها.
السؤال هو: هل هناك من أمل في الخروج من هذا المأزق المتشنج والمتوتر، الذي يفقد المجتمعات في المنطقة مصدراً رئيسياً من مصادر قوتها وعزتها وتماسكها… وهو الوحدة الوطنية التي تستوعب التنوّع المذهبي وتعالج إشكاليات الطائفية المقيتة؟
المصدر: الشرق الأوسط