مفكر إسلامي
لا يمكن للمرء وهو يشهد موسم الحج إلا أن يتذكر إبراهيم عليه السلام، حيث يقتدي به الحجيج ضمن شعيرة تؤدى بمناسك معينة، فيتقربون إلى الله العلي القدير في صلواتهم ودعائهم وطوافهم وسعيهم، متساوين في أشكالهم لا فرق بين غني وفقير ولا بين أبيض وأسود، في رحلة يفترض بها أن تشكل غذاءً للنفس، جديرة أن يغفر الله لعبده بعدها ما تقدم من ذنوبه.
وإبراهيم لم يكن مجرد نبي، إنما وصفه الله تعالى بأنه “أمة” {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً} (النحل 120) والأمة تعريفاً تجتمع على سلوك خاص بها، فإبراهيم سلك طريقاً تفرد به، في رحلته من الشك إلى اليقين، ومحاججته لله {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} (البقرة 260) وفي هذا النهج الاستقرائي جعله الله للناس إماماً {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} (البقرة 124) وفي مجتمع تعددت فيه الآلهة كان لا بد لإبراهيم من مواجهة أبيه وقومه واعتراضه على عبادتهم للأصنام ثم تحطيمه لها، وبراءته من شرك من حوله {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (هود 54)، وفي اختبار آخر لم يتوانى إبراهيم عن تقديم ابنه بناءً على أمر من الله تعالى، فإيمانه الراسخ لم يتقهقر ولم يهتز بل مضى حتى كاد أن ينفذ الأمر، وساعده في ذلك ابنه الضحية، لكن الله أراد أن يقدم نهجاً تسير عليه الإنسانية ابتداءً من ذاك الحدث حتى قيام الساعة، بعدم تقديم قرابين بشرية، تحت أي سبب كان، والفائدة من الأضاحي التي تقدم اليوم هي توزيع لحومها على الفقراء {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} (الحج 37)، وبالنظر إلى سيرة إبراهيم هذه نفهم قوله تعالى {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} (النساء 125) فملة إبراهيم هي الحنيفية التي تقوم على الاستقراء والتعقل والتدبر، وتنوس ضمن فطرة الله التي فطر الناس عليها، والتي يتسع فيها المجال لتشمل كل أهل الأرض.
وإذ يمثل الحج نهج إبراهيم، كم منا يتبعه أو يتبع نهج محمد رسول الله الأعظم في تحطيم الأصنام، سواء حج أم لم يستطع إلى ذلك سبيلا؟ ولا أقصد هنا الأصنام كتماثيل بأشكال ما، ولا أقصد اللات أو مناة أو هبل أو العزى، بل الأصنام التي في رؤوسنا لأشخاص بلغ بنا الجهل أن نمنحهم قدسية زوراً وبهتاناً، حتى أصبحت أقوالهم توازي إن لم تتقدم على كتاب الله تعالى، مثل قولهم: “القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن” فإذا كان الرسول الأعظم لم يمنحه الله قدسية أكثر من تكريم لمقامه {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} (الأحزاب 56) ولم يصل إلى حد خروجه عن كونه بشر {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف 188)، فكيف بصحابته أو آل بيته، وكيف بمن جاء بعدهم من رواة حديث أو فقهاء أو مفسرين؟ فهل ثمة من يزيل عنهم هذه الهالة المحيطة بهم فيخضع ما أنتجوه للدرس والتمحيص بدل اعتباره منزلاً لا يطاله الباطل من أمامه ولا من خلفه؟ مع احترامنا وتبجيلنا لما كانوا عليه وقاموا به في زمنهم، وعدم انتقاصنا من قدرهم، أو هل ثمة من يجرؤ على تجاوز ما أتوا به وإلقاء هذا العبء من على كاهل الأمة لتنظر بعينها إلى رسالة محمد بدل عين الشافعي وأبي حنيفة؟ ناهيك عن خلاف على السلطة بين هذا وذاك دفعنا -ولا يعلم إلا الله إلى متى سنبقى ندفع- ثمنه حروباً ودماءً باسم الله، والله منها براء، وحتى أصحابها ذاتهم لا يرضون عما يرتكب تحت راياتهم اليوم، فألا يجدر بنا ألا نكتفي بشكل المناسك، بل نجعلها تنعكس على واقعنا كأمة تدعي الاقتداء بإبراهيم وتتأسى بمحمد، بدل أن نبقى في مستنقعنا، مستعدين لإهدار دم من ينتقد خالد بن الوليد أو صلاح الدين، ولسان حالنا {قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (الأنبياء 59)؟ فهل سيؤتي حجنا بعضاً من ثماره؟
كل عام وأنتم بخير.
خاص ل (هات بوست)