خالد الدخيل
خالد الدخيل
كاتب و محلل سياسي سعودي

هل كان هناك حقاً ربيع عربي؟

آراء

يعكس سؤال العنوان مواقف كثيرين، في مقدمهم رجال الحكم الذين قامت ضدهم ثورات الربيع. استنجد هؤلاء بمخزون المؤامرة المعتق منذ سايكس بيكو، وفي مقدم رجال الحكم يأتي قادة النظام السوري وحلفاؤهم في طهران، ثم «سادة المقاومة» في الضاحية الجنوبية لبيروت. هناك من شكك، وهو لا علاقة له بالحكم، انطلاقاً من قناعاته الفردية. هناك أيضاً فئة كانت مع الربيع عندما بدأ، ثم عندما طال بها الزمن، ولم يحن قطاف الربيع بدأ الشك يتسرب إليها، وبدأ إيمانها بحتمية التغيير يهتز. أصبح الربيع بالنسبة لكل هؤلاء مربكاً، يحمل في طياته أكلافاً إنسانية وسياسية تثير الشك في جدواه وفي توقيته.

ومما زاد الأمر سوءاً أن الثورة تعثرت في كل البلدان الخمسة التي حصلت فيها، خصوصاً في مصر. كانت الأخيرة هي النموذج للثورة الشعبية في شكلها غير المعهود عربياً. لكنها بعد بدء العملية السياسية، وفوز «الإخوان»، دخلت الثورة في نفق مظلم، يزداد كل يوم ظلمة وإرباكاً. بات واضحاً أن القوى التي استولت على الثورة في مصر، وأولها «الإخوان المسلمون»، أفرغوا الثورة من محتواها، وأدخلوا مصر في حال توهان سياسي واجتماعي لا أحد يعرف كيف ينتهي. تكرر الشيء نفسه في تونس وليبيا واليمن. ثم جاءت مأساة الثورة السورية لتؤكد عند البعض انقلاب النظرة المتفائلة إلى نظرة تشاؤمية سوداوية. بدأ البعض يستبدل كلمة الربيع بكلمة «الشتاء» أو الصيف. هل كانت هناك ضرورة لهذه الثورات؟ وهل تبرر هذه الأكلاف الكبيرة حدوث ثورات مثل هذه؟ لقد انقلبت هذه الثورات، أو هي في طريقها للانقلاب إلى حروب أهلية طائفية. وما يحصل في سورية منذ أكثر من سنتين هو قمة هذه الحروب، وينذر بما هو أسوأ من ذلك.

هل هناك ما يبرر مثل هذه النظرة؟ لا بد أولاً من استبعاد رجال الحكم وحلفائهم الذين قامت ضدهم الثورة لأن موقفهم متوقع، ولا يعكس شيئاً مهماً أكثر من مصالحهم، وانحيازاتهم الاجتماعية والسياسية. بعد ذلك تبدو النظرة المتشائمة محكومة بمنطق الاستعجال السياسي، وهو منطق تشكل على الأرجح في ظل ثقافة الاستبداد التي ترتكز على ثالوث المحرمات السياسية والدينية والاجتماعية. وليس بعيداً هنا تأثير نموذج التغيير السريع الذي كان يتحقق بعد كل انقلاب عسكري من الانقلابات التي عرفتها كثير من البلدان العربية في خمسينات وحتى سبعينات القرن الماضي. وهذه كانت تغييرات سطحية وشكلية، وهو ما يفسر سرعة حدوثها. هناك أيضاً منطق الاستعجال لثقافة مجتمعات لم تعرف تغيرات حقيقية منذ زمن بعيد جداً. لم تعرف هذه الثقافة إلا الكثير من الخيبات والانكسارات. أصبح شعور اليأس جزءاً من منظومة قيم هذه الثقافة. وربما أن هذا مرتبط أيضاً بثقافة القبيلة، وميلها السوسيولجي إلى الاستعجال الذي يعبر عنه قول المثل الشعبي «ربي ارزقني وعجل».

هناك أيضاً حقيقة تاريخية وهي أن عمر الاستبداد العربي بمحرماته الثلاثة يمتد لقرون طويلة، وأن الفكر الديني بمفاهيمه القديمة هو المهيمن على الثقافة العربية، وأن الأيديولوجيا القبلية لا تزال تمثل مرتكزاً أساسياً للبنية الاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية. وعندما نأخذ كل ذلك في الاعتبار، يصبح من الممكن القول إن النظرة التشاؤمية للربيع العربي هي انعكاس لتيار محافظ معتبر بحجمه وانحيازاته. ومن ثم، فإن هذه النظرة المتشائمة المحكومة بمنطق استعجال النتيجة السهلة والمأمونة العواقب إنما تعبر عن شعور مبطن ومتأصل يتسم بمحافظة متجذرة تحاذر التغيير، خصوصاً التغيير المصحوب بالعنف.

على الجانب الآخر من القضية، أو جانب ثورات الربيع، ما الذي تنطوي عليه، ولا يوفر مستنداً لتلك النظرة التشاؤمية؟ أولاً: إن حدوث الثورات بحد ذاته يعني أن التيار المحافظ بتعبيراته السياسية والدينية والاجتماعية، ومع أنه مهيمن، إلا أنه لم يعد بمفرده، أو بمنأى عن تحدي تيارات أخرى تدفع باتجاه التغيير، وتجاوز مرحلة الانسداد السياسي والفكري الذي رزحت تحته المجتمعات العربية لقرون مديدة. وأول وأهم ما حققته هذه الثورات من هذه الزاوية ثلاثة أمور: تأكيد مفهوم الدولة الوطنية. ثانياً: فرض مفهوم الفرد وحقوقه الإنسانية والسياسية. ثالثاً: إنها فجرت التناقضات الاجتماعية والدينية، وجعلتها موضوعاً مكشوفاً للصراع والتقاتل حولها، بعد أن كانت تعتمل تحت سطح المحرمات بصيغها الثلاث. لا يمكن القول طبعاً إن هذه الثورات نجحت في تحقيق أهدافها المباشرة والنهائية، وتجسيدها على الأرض. هذا لن يتحقق خلال أقل من ثلاث سنوات هي عمر الربيع. لكن يمكن القول باطمئنان إن هذه الثورات اجترحت خطاً سياسياً فاصلاً في العالم العربي بين ما قبل وما بعد. وذلك لأنها فرضت أجندة اجتماعية وسياسية مختلفة، وأسست لواقع سياسي سيكون مختلفاً بالتأكيد، وإن كنا لا نعرف على وجه التحديد الآن طبيعة هذا الاختلاف وحجمه. ربما أن ثورات الربيع العربي تشبه إلى حد ما في مرحلتها الحالية ما حصل في أوروبا في أواخر النصف الأول من القرن الـ19، أو ما يعرف في الأدبيات السياسية بثورات 1948. بدأت هذه الموجة في فرنسا، ثم انتشرت في غالبية أنحاء أوروبا وأميركا اللاتينية. وتولت قيادة هذه الثورات تحالفات عفوية من الإصلاحيين، والطبقات المتوسطة، والعمال، لكنها تحالفات لم تلبث أن انحلت بالسرعة التي تشكلت بها. وقتل في هذه الثورات عشرات الآلاف، وتهجر أكثر من ذلك. في حينها لم تحقق ثورات 1948 أهدافها المباشرة، ما عدا بعض النجاحات في بلدان مثل الدنمارك والنمسا وفرنسا. لكن، من الواضح أن أهمية هذه الثورات لم تكن في تحقيق أهدافها المباشرة، بمقدار ما أنها كانت استمراراً للثورات التي حصلت في بريطانيا وفرنسا في القرنين الـ17 و18 وفي ما أسست له لتعميق التغيرات الفكرية والسياسية الكبيرة التي شهدتها أوروبا بعد ذلك.

هناك أمور كثيرة كشفتها ثورات الربيع العربي، وتتعارض مع النظرة التشاؤمية. منها مدى ضعف الطبقة المتوسطة في المجتمعات العربية، وأن هذه الطبقة ضعيفة وهشة، لا تسيطر على رأسمالها، وتفتقد بالتالي لاستقلالها الاقتصادي والفكري، بسبب اعتمادها شبه الكلي على الدولة، على رغم أنها تشتكي من فساد هذه الدولة واستبدادها بالرأي وبالقرار. كان الدور السلبي لهذه الطبقة واضحاً في كل الدول الخمس. لكن دورها الأسوأ هو في الثورة السورية، وتحديداً في دمشق. وذلك بسبب ارتباطها التجاري بالنظام السياسي، وهو ارتباط نفعي خالص لطرفيه، وليس ارتباطاً يستند إلى مشتركات أيديولوجية وسياسية. والأرجح أن خوف هذه الطبقة في سورية نابع من أمرين: أن الثورة كانت في بدايتها ريفية، والثاني دموية النظام السياسي وتطبيقه سياسة العقاب الجماعي ضد كل من يعترض عليه. يتحدث السوريون كيف أن التاجر قبل حكم البعث كان يتمتع بمكانة كبيرة داخل أروقة مؤسسات الحكم. أما بعد البعث، فقد انقلبت العلاقة. بحيث أصبح التاجر ملزماً بشراء ولاء الضابط العسكري لتسهيل أموره داخل بيروقراطية الحكومة.

ومن أهم ما فجرته ثورات الربيع وأخطره الصراعات الاجتماعية، وأبرزها الصراعات الطائفية خصوصاً في سورية، وتداعيات ذلك على العراق ولبنان. هذا يعني أن منطقة الشام والهلال الخصيب تنزلق إلى حروب دينية بشعة. يشبه تفجير هذه الصراعات تفجير الورم الذي يختبئ تحت أردية اجتماعية وسياسية تراكمت مع الزمن، الأمر الذي سيضع الجميع أمام بشاعة واقعهم السياسي المزري، وبالتالي يفرض ضرورة التغيير. سيكتشف الجميع أن مصدر خطورة الطائفية هو أنها أبشع أشكال العلاقة بين الدين والدولة، وهو ما يقتضي وضع حد لهذه العلاقة. هناك أطراف مستفيدة من هذه العلاقة، لكن على حساب المجتمعات واستقرارها. والأرجح أن الثورات وتداعياتها ستكشف هذه العلاقة وأكلافها على الجميع.

ماذا يعني كل ذلك؟ ثلاثة أشياء: أن الحكم على فشل ثورات في مجتمعات قديمة بتاريخها وطوبوغرافيتها الاجتماعية والثقافية يتسم بالتسرع البسيط. ثانياً: أن طول عمر التركيبة الاجتماعية للمجتمعات العربية الذي يمتد لقرون لا يبرر توقع تغيرها في غضون سنوات قليلة. ثالثاً: والأهم أن طبيعة الأجندة التي فرضتها هذه الثورات تتطلب أكثر بكثير مما حصل فيها ولها حتى الآن.

المصدر: صحيفة الحياة