كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
أحب الحياة كأي مسلم معتدل. في بداية شهر رمضان، اصطحبت أسرتي إلى مقهى حلويات تركي بمدينة جدة بعد صلاة العشاء. أمسية رمضانية معتادة، حوار أسري، وكثير من السعرات الحرارية والشاي التركي.
في اليوم التالي تسلّمت التغريدة الآتية على حسابي في «تويتر»: «شايفك أمس في مطعم (…)، أنصار الدولة في كل مكان، انتبه على نفسك». هل هذا تهديد أم نصيحة؟ أم أن صاحبها يريد أن يقول لي «نحن هنا»؟ دخلت على حساب «أبو عابد الموحد» مرسل التغريدة، وجدته «داعشياً» ملتزماً منذ أشهر، وليس عابر سبيل يمازحني. نشط بحرفية في توزيع إصداراتها وأخبارها، والدعوة لها، لا يدخل في مناكفات وتبادل سباب وتهديد ووعيد مع شعب «تويتر»، مثلما يفعل كثير من أنصار هذا التيار المتطرف، ما جعلني أعتقد أنه ليس هاوياً أو مشجعاً وإنما هو «عضو عامل ملتزم».
بحثت عنه في «ذاكرة المكان» الذي لا علاقة له بـ «داعش» ونظرتها الى الحياة والناس، إلا في غياب الموسيقى المعتادة في مطاعم العالم كله، ولكنها تغيب عن مطاعمنا في رمضان وغير رمضان، بحسب التوجيهات المحلية التي ترى فيها رجساً من عمل الشيطان. عن يسار طاولتنا كان قسم العائلات، ولا أذكر أحداً هناك لديه صفات «داعشية». عن اليمين قسم العزّاب، شبان عاديون يتحدثون عن كأس العالم بحماسة، أحدهم لفت انتباهي أنه أشعل سيجارة ما يخالف النظام الذي أمرت به بلدية جدة منذ أشهر، وعندما احتججت على ذلك، قال لي النادل إن صاحب المطعم حصل على استثناء من البلدية. سألت عمّن يكون المالك، فكان الاسم «متنفذاً» بما فيه الكفاية. نموذج صغير لحال الفوضى التي تعيشها أمتنا التي تغذي «داعش» وأمثالها.
بالطبع لم يكن هناك شاب ملثم، يرتدي السواد، ولكن المؤكد أن «أبو عباد الموحد» كان هناك، واحد منا، فتغريدته تؤكد ذلك. إنه شعور غريب أن تعلم أن هناك شاباً، يؤمن بأفكار الدولة الإسلامية التكفيرية الثورية الغاضبة، ينافح عنها، ويروّج لها يجلس على بعد أمتار منك، ينظر إليك، هل كان يدعو لنا بالهداية أم كان يردد «جئناكم بالذبح»؟ كلتا الحالتين تستطيع أن تجدها لديهم، الرحمة والدعوة إن اتفقنا معهم، والذبح إن خالفناهم.
هل لدينا في السعودية حالة «داعشية» أخطر مما لدى غيرنا؟ أعتقد أنه سؤال يمكن التحقق منه في شكل علمي على طريقة المعايير الاقتصادية، مثل «معدل دخل الفرد» أو «نسبة الوفيات بين المواليد»، وهي معايير ذات دلالة على تحسن الأوضاع أو سوئها في البلد المعني، فماذا لو اجتمع باحثون وحاولوا الوصول إلى رقم «نسبة الداعشيين إلى عدد السكان». نحتاج إلى شفافية من وزارة الداخلية، التي لها حساباتها الأمنية المبررة، ولكن حتى ذلك الوقت سنظل رهائن للأرقام التي تتطوع بها مراكز البحث الغربية مثل «سوفان غروب» التي أصدرت تقريراً منتصف العام الحالي تقدر فيه عدد السعوديين في سورية بـ 3 آلاف، ولكن يسبقهم بقليل التونسيون مثلاً، فإن صحّ ذلك فهذا يعني أن وضعنا «الداعشي» أفضل من تونس بالنسبة إلى عدد السكان، كما يستطيع المحلل أن يبرئ المناهج التعليمية السعودية فيقول إن التعليم في تونس أكثر عصرنة من التعليم السعودي وانفتاحاً، وأقلّ حصصاً في الدين، ولكنه صدّر «داعشيين» أكثر من التعليم السعودي.
ما سبق ليس بالكلام العلمي بالتأكيد، فالأرقام ليست دقيقة، ولكني متأكد أن الداخلية السعودية لديها أرقام دقيقة بإحصاء عدد السعوديين المشتبه أنهم انتهوا مقاتلين في صفوف «داعش»، من قواعد بيانات السفر ثم الغياب غير المبرر، أو من معلومات استخباراتية أمنية، هذا غير إحصاءات تحليلية بالسن والمناطق والتعليم. كل تلك معلومات مفيدة لتقدير الحالة «الداعشية» التي نعيشها.
الأصعب هو تقدير الحالة «الداعشية المتعاطفة»، وهي التي يمكن أن تحدد خريطة وقوة الخلايا النائمة، مثل صاحبي في مطعم (…) «أبو عابد الموحد»، الذي قد يكون قيادياً محلياً معنياً بالتجنيد، أو مجرد شاب مكلّف بالإعلام، وهذه لا يمكن تقديرها إلا من خلال معلومات استخباراتية لا يملكها الإعلام، ولكن ثمة نافذة هائلة تطل على عالم «داعش» والتطرف هي «الإعلام الاجتماعي»، وجولة فيه تكشف أن هناك شعبية محترمة لهم، ويستطيع الباحث المتخصص أن يتعقب مصادر تلك المعرّفات لرسم خريطة لوجودها الجغرافي. هذا ما فعله المحلل ناعوم بنشتوك في موقع Vocativ المتخصص بكتابة التقارير الصحافية من عمق الإنترنت كما يصف نفسه، فلاحظ أن معظم التغريدات المؤيدة لـ «داعش» تأتي من المملكة، بل إن أشهر هاشتاق لتأييد «داعش» #حملة_مليار_مسلم_لنصرة_دولة_الإسلام انطلق من معرّف في السعودية، بعدها جاءت 95 في المئة من التغريدات من هناك في البداية، قبل أن يتحول إلى هاشتاق عالمي دار حول العالم، فأخذ أنصار «داعش» يشاركون فيه بصور تشير إلى بلدانهم للدلالة على حجم تأييد هذه الجماعة المتطرفة.
في المقابل هناك رفض هائل لـ «داعش» والجماعات المتطرفة من عموم السعوديين، تجلّى بوضوح بعد العملية الإرهابية ضد مركز الوديعة الحدودي جنوب المملكة، ثم مدينة شرورة التي تبعد عنه بنحو 60 كيلومتراً، التي استشهد فيها عدد من رجال الأمن، من إرهابيين مرّوا على برنامج المناصحة الشهير، فكانوا ممن «أصروا واستكبروا استكباراً»، عملية أغضبت السعوديين بشدة، وذكرتهم بخطر «القاعدة» و «داعش»، وأزالت بعض الغشاوة التي أصابت البعض بعد انتصارات الأخيرة على الحكومة العراقية التي يراها السعوديون طائفية ومقربة من إيران، ولكن هذا التعاطف يجب ألا يعمينا كسعوديين عن حقيقة أن وجود 3 آلاف إلى 4 آلاف مقاتل سعودي في صف «داعش» اليوم بحسب أكثر من تقدير استخباراتي مثير جداً للقلق، هؤلاء غير المتعاطفين غير المرئيين. هذه الحقيقة تستدعي النظر أسفل كل حجر، وتقليب كل احتمال لتفسير هذا التعاطف.
حتى ذلك الحين، فإنني في انتظار أن أسمع رأي «أبو عابد الموحد» عن سبب تعاطفه مع «داعش» إذا قرأ هذه المقالة، ذلك أنني عمدت إلى أن أتابع حسابه في «تويتر» لفتح نافذة تواصل مباشر معه، إن فعل، سأشرك القراء في ما سأسمع منه.
المصدر: الحياة