كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو
سألت سائق التاكسي إن كانت أحوالهم قد تغيرت بعد رحيل مانديلا؟ سألته وأنا أمسك طرفاً من خيط الإجابة، إذ كنت قد طالعت قبل وصولي جوهانسبرغ عدداً من التقارير الإخبارية التي تؤكد بأن جنوب أفريقيا تعيش وضعاً حرجاً، أو على الأقل ليس بذات الاستقرار «المعنوي» الذي كانت عليه خلال العقدين الماضيين.
أجابني، من دون وضوح كافٍ، بنعم.
عدم وضوحه لم يكن تحفظاً احترازياً كما يفعل بعض سائقي التاكسي في الدول القمعية، إذ يحظى الإنسان في جنوب أفريقيا بهامش حرية فضفاض تكفله الديموقراطية السوداء التي أعقبت الديكتاتورية البيضاء!
كان مسوّغ إجابته المقتضبة أن الحكاية طويلة لا ترتبط بحضور أو غياب مانديلا فقط، بل بالصراع المستديم بين البيض والسود… وإن اختفى تحت الرماد (!)، وبالحدة التصارعية على الاقتصاد مع الدول الأفريقية المنافسة، مصحوباً هذا بتأثير الصراعات والحروب الأهلية في الدول المجاورة.
لا يمكن لأحد، أبيض أو أسود، أن ينكر تأثير حضور الزعيم نيلسون مانديلا على القارة الأفريقية كلها وليس جنوبها فقط.
ربما ساغ النقاش في تأثير غياب مانديلا… لكن تأثير حضوره غير قابل للنقاش!
استطاع «العملاق» الأفريقي أن يصنع معجزة ظل الأفارقة قروناً طويلة بانتظارها، وهي التحرر من المستعمر الأجنبي. لكن الوقت لم يسعف الزعيم المسنّ في استكمال مسيرته في تحرير الإنسان من المستعمر الداخلي. ولم تكن هذه مسؤولية المناضل الذي أمضى ثلث عمره في السجن، بل مسؤولية معاونيه الذين كان يجب أن يتوقفوا عن الاحتفال بالتحرر من قبضة المستعمر ويبدأوا في بناء هذا الإنسان المتحرر سياسياً والمستعبد تنموياً، إذ مضت عشرون عاماً حتى الآن منذ انتقال إدارة البلاد من نظام الفصل العنصري إلى قبضة المؤتمر الوطني الأفريقي في العام ١٩٩٤، وهي مدة كافية لإحداث التغيير.
السكان البيض الذين تخلوا عن الهيمنة السياسية لكنهم تمسكوا بالهيمنة الاقتصادية، يشيعون بأنهم باتوا يتعرضون لعنصرية مضادة تزيحهم عن المشهد السياسي! وبغض النظر عن مدى صدقية هذه التهمة «البيضاء» إلا أنه لا يمكن إهمال التأمل فيها وما يمكن أن تحدثه من توسيع فجوة العدالة المالية والاجتماعية بين السود المشغولين بالسياسة والبيض المهيمنين على الاقتصاد.
عودة العنصرية، وإن بلباس آخر، سوف تربك التنمية المعلقّة بين فصيلين أحدهما وطني لا يملك الأدوات التنموية الكافية والآخر تنموي لا يملك الانتماء الوطني الكافي.
الفارق بين الزعامة السياسية والزعامة التنموية يتمثل في الفرق بين ما صنعه مانديلا لجنوب أفريقيا وما صنعه مهاتير محمد لماليزيا أو لولا دا سيلفا للبرازيل. فالنموذج الماليزي والبرازيلي اهتم بصناعة الإنسان وتنميته حتى يصبح قادراً على التحرر من كل أنواع الاستعمار.
غياب مهاتير و دا سيلفا عن الساحة لم يعطّل قطار التنمية في النمرين الآسيوي واللاتيني، لكن غياب مانديلا أثّر على جنوب أفريقيا مرتين، بسبب عدم استكماله لمشروع التحرر، على رغم عدم جرأتنا على تحميله المسؤولية. والتأثير الآخر لغياب مانديلا هو تضاؤل الإيحاء النفسي / الوحدوي الذي كان يمنحه للشعوب التي أحبته وجعلته زعيماً روحياً لها.
خلال السنوات القليلة المقبلة سنعرف: هل مات مانديلا حقاً؟!
المصدر: الحياة