
كاتب و ناشر من دولة الإمارات
خاص لـ هات بوست:
الفيلسوف الرواقي “إبيكتيتوس” كان يرى أن قيمة الإنسان لا تكمن في ما يملكه أو يظهره، بل في قدرته على التحكم بنفسه وفهم موقعه في الكون.
عبر التاريخ، تغيرت مقاييس النجاح بتغير الزمن: عند الفلاسفة كان النجاح امتلاك الحكمة، عند الملوك لا شيء يضاهي السلطة، عند التجار كان المال والثروة، وعند بعض أصحاب المعتقدات كان النجاح هو القدرة على التحرر من الدنيا. هذه التباينات تكشف أن النجاح نسبي، لا يُقاس بمعيار واحد صالح لكل الأزمنة.
أما في عصرنا، فقد فرض منطق السوق مقاييسه القاسية: فصار الإنسان سلعة، قيمته في إنتاجه، وفي قدرته على جمع المال أو حصد الشهرة أو اعتلاء المناصب. جاءت سلطة الصورة من الإعلام وشبكات التواصل ونمط البيئة المعاصر لتكرّس هذا المنطق، فصار النجاح مشهدًا بصريًا يُعرض للآخرين، لا تجربة داخلية تُعاش بصدق.
ونتيجة لذلك، وُلد وهم جديد: وهم المساواة والكفاءة. قيل لنا إن الفرص متاحة للجميع، وإنه لا عذر للفشل، لكن الحقيقة التي لم تُقَل هي أن التفاوت قائم، وأن الركض المحموم خلف صورة جماعية لا يترك إلا قلة منتصرة وأكثرية محبطة.
الأخطر أن الإنسان تحوّل من صانع معنى إلى مستهلك معنى؛ يعيش حياته ليُثبت للآخرين نجاحه، لا ليشعر داخليًا بالرضا والتصالح.
لكن السؤال: هل هناك نجاح آخر، أعمق وأهدأ؟ الإجابة: نعم! إنه النجاح الداخلي. أن يفهم الفرد دواخله، ويضبط إيقاعاته، ويحقق توازنًا بين ما يريد وما يستطيع. أن يجد سكينة تجعله متصالحًا مع نفسه ومع مكانه في العالم. هذا النجاح لا يحتاج جمهورًا ولا أضواء، وقد يفتقده أولئك الذين يُصفق لهم الناس كل يوم. كم من ناجح بمعايير اليوم يفتقر إلى لحظة صفاء مع ذاته، وكم من إنسان بسيط يملك حوارًا داخليًا يمنحه السكينة والرضا.
لقد مجّد القدماء البساطة، ورأوا في العودة إليها خلاصًا من زيف الحياة. في عالم اليوم، حيث كل شيء مُقيّم ومُعلن، يظل هناك جمال خفي في أن تجلس مع من لا يعرفونك، وأن تتأمل في الطبيعة التي بقيت آلاف السنين على حالها، وأن تمضي وقتًا مع نفسك أو مع آخرين لا يحكمون عليك. هذه اللحظات تكشف لك أن النجاح الحقيقي قد يكمن في التحرر من الصور النمطية، لا في مطاردتها.
النجاح نوعان: خارجي يصفق له الآخرون، وداخلي يعيشه الفرد في صمت. لذا، بدلًا من الركض وراء نجاح خارجي لا يمكن تحقيقه للجميع، فلنصنع تعريفًا خاصًا بنا للنجاح، تعريفًا يليق بنا نحن، بما نريده لا بما يريدون هم.