كل موجات العنف والتطرف التي عرفتها المنطقة قلما كانت تأتي منفردة، فغالبا ما تكون ضمن سياقات تمثلها أحداث كبرى مفصلية؛ الحرب الأفغانية، احتلال العراق، الثورة السورية، ولكن أبرز ما يمكن ملاحظته في تلك الموجات أن الأحداث الكبرى تمثل إحياء وإيقاظا للمارد الإرهابي بكل تجلياته الفكرية والحربية والتعبوية، ويصاحب ذلك نشاط واسع في إبراز المرتكزات التي يقوم عليها.
الجهاد ينطلق أولا من فكرة خطيرة ومحورية في المدون الفقهي، وهي: الإنكار، (حيث يجب أن يتحمل المسلم مسؤولية تجاه ما يتعرض له المسلمون في أي مكان في العالم وأن يهب لنصرتهم) بالتأكيد التوصيفات في الفقه لهذه الحالة أكثر تعبوية واندفاعا.
ربما يكون ذلك الواقع طبيعيا بالنظر للسياقات التاريخية والمعرفية التي كتب فيها ذلك المدون، لكن الأزمة نشأت حين لم يوجد فقه معاصر يستوعب كل المتغيرات الحضارية والإنسانية التي شهدها العالم والتي كان من أهمها نشوء الدولة الوطنية الحديثة.
هذا يعني أن السند الفكري للعنف والإرهاب لا يزال قائما وحاضرا، وإلى الآن ومع كل المحاولات التي قامت بها كثير من الشخصيات والهيئات الشرعية للرد على أفكار الإرهابيين والجهاديين إلا أنها لا تزال مجرد مساجلات فقهية وعظية أكثر من كونها مشروعا فقهيا واعيا وجديدا.
كل موجات الإرهاب التي شهدتها المنطقة لم تكن في الغالب تلقائية؛ فقد تم استثمارها استخباراتيا وأفرزت تلك المراحل ما يمكن تسميتها بالدول الراعية للإرهاب التي وصلت إلى مراحل متقدمة في دعم الخلايا بل وتأسيسها وإمدادها بالمال والعتاد والإعلام، لكن الأخطر أنهم يجدون من يمكن تجنيدهم من الشباب والنساء وهؤلاء إنما يحركهم إيمانهم القادم من ذلك المدون ووعيهم الديني العقائدي الأحادي الذي يُؤْمِن بالجهاد والنفير وفق صيغته القديمة.
إن ما نشهده اليوم في المنطقة من مواقف صارمة من دول الاعتدال وفِي مقدمتها السعودية والإمارات ضد الأنظمة الراعية للإرهاب وفِي مقدمتها إيران وقطر، إنما يكشف حجم التورط الذي وصلته تلك الأنظمة في دعم الإرهاب واستخدامه كإحدى وسائلها لتحقيق أهداف عقائدية أو سياسية.
إن محاولة الإجابة عن مصير التطرّف والعنف في المنطقة شائك نوعا ما بسبب حجم التداخلات التي تؤسس وتدعم تلك الموجات من الإرهاب، لكن الجواب الأقرب للواقعية هو: نعم. يمكن أن يعود الإرهاب والتطرف، إنما بوتيرة أقل وأكثر بطئا بسبب تحولات فكرية واتصالية وسياسية أيضا تشهدها المنطقة والعالم. إن الانكشاف الكبير الذي منيت به الحركات الجهادية والتي كان أبرز تجلٍ لها في نموذج داعش السيئ الصيت في العالم العربي والإسلامي قبل غيرهما من العوالم، ولقد أسهم الإعلام والدراما والفنون إسهاما عظيما في كشف ذلك النموذج وإخراجه في إطاره القبيح الفعلي الذي كان يميز كل أفعاله، كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في إظهار مختلف المساوئ التي يمثلها التنظيم على مستوى الفكر والمواقف، والمصير الذي انتهى إليه كذلك يمثل أبرز العوامل التي تسهم في انطفاء البريق الذي ظلت تمثله دعوات الجهاد والنفير في نفوس الشباب المسلم حول العالم.
لكن ذلك لا يلغي أبدا إمكانية ظهور تنظيمات وخلايا جديدة تحاول تجنب الأخطاء التي وقعت بها داعش وستجد مرجعية فقهية جاهزة هي تلك التي لا تزال كامنة في المدون الفقهي ولَم تتعرض لأي تغيير حقيقي.
إن أفكارا مثل الحرب على الكفار أو نصرة المسلمين حول العالم هي أفكار ربما تراجعت خاصة مع انكشاف أن تلبية تلك الدعوات لا تمثل أية جدوى، لكن الخطر القادم يتمثل في إرهاب الإنكار؛ فالتحولات الكبرى التي تمر بها اليوم مجتمعات المنطقة ستجعل من ذوي الآراء المتشددة الرافضة لتلك التحولات خطرا حقيقيا يجب الالتفات إليه، وأخطر ما في هؤلاء أنهم لا يكتفون بتحريم ما يرونه محرما على أنفسهم، لكنهم يتحولون لأصوات دعوية تجاهر بذلك التحريم في مجالسها وخلواتها وبالتالي تؤسس لجيل محتقن شرعيا ويشعر أن ما نشأ عليه من محاذير ومحرمات لم يعد كذلك، وبمجرد ظهور هذه الأصوات سوف تتحرك محاولات التوظيف الاستخباراتي المعروفة في المنطقة لاستقطاب تلك الخطابات ومحاولة بناء موجة جديدة.
ثمة حزمة من الخطوات التي يجب الانطلاق منها لمنع أية ظهور محتمل لخلايا متطرفة جديدة، الأسبوع القادم: كيف يمكن حصار ثقافة التطرّف والإرهاب والإنكار.
المصدر: عكاظ