المتطرفون الذين استهدفوا الكنائس في مصر لم يضيفوا إلى تاريخ الفتوحات الإسلامية انتصاراً لم يحققه المسلمون قبلهم في الحروب الصليبية، والمهاجر الأوزبكي الذي دهس بشاحنته مجموعة من المشاة في العاصمة السويدية «ستوكهولم»، لم يكسب للإسلام أنصاراً جدداً نستطيع أن نضيف أسماءهم إلى قائمة أنصار المدينة الذين آووا المهاجرين الأوائل في بداية الدعوة.

التنظيمات التي تزعم أنها إسلامية، وتتبنى العمليات الإرهابية التي تحدث في أنحاء المعمورة، لم تتقدم خطوة في تطهير الأرض من «الكفار» الذين تقول إنها ستطهرها منهم، وجماعات الإسلام السياسي التي تستغل هذه الحوادث للشماتة من الأنظمة التي أفشلت مشروعها وعرّتها وكشفت سوءتها، لم تنجح في تحسين صورتها وجعل العالم يحبها، والخاسر الأكبر من هذه العمليات، هو الإسلام الذي يزيده هؤلاء المسكونون بترويع البشر وقتلهم كل يوم تشويهاً، ويضيفون إلى قائمة أعدائه مزيداً، والمتضررون هم المسلمون الذين تُغلق في وجوههم حدود البلدان، وتجري معاملتهم على أنهم إرهابيون محتملون في المطارات، ويتم التضييق عليهم كلما حدثت عملية من هذا النوع في كل مكان.

الإسلام الذي يدّعي هؤلاء المتطرفون أنهم يتحدثون باسمه، ويرفعون الرايات السوداء شعاراً له، لم يأمر بقتل الأبرياء من البشر، ولم يُجِز مهاجمة دور العبادة وإراقة دماء من يقصدها، ولم يحض على قتل الناس الذين يمشون في الشوارع ويتجولون في الأسواق آمنين، والأدلة على ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة كثيرة ومتعددة، لكن غلاة المتطرفين والمتشددين يفسرون هذا الآيات بطريقة تتفق مع أهوائهم، وتخدم توجهاتهم وأهدافهم، بينما ينظر إليها بقية المسلمين، وهم الغالبية العظمى، وفقاً لمنهج الإسلام الذين يحترم أصحاب الأديان الأخرى، ولا يُكره أحداً على الدخول فيه، ويُحرّم قتل النفس إلا بالحق، ولا يمكن أن تُجمِع الأمة على باطل، ويزعم المارقون أنه الحق، ولنأخذ على ذلك مثالاً، قول المولى عز وجل في محكم كتابه: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً}. [الحج: 40].

يفسر الشيخ محمد متولي الشعراوي هذه الآية، جامعاً إليها قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض}.. [البقرة: 251]، على النحو التالي… «إن قوله تعالى {لَفَسَدَتِ الأرض} في هذه الآية، وقوله تعالى {لهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ}، بأن الأرض ستفسد إذا لم تقم الصوامع والبيع والصلوات والمساجد، وهي دور العبادة عند أصحاب الديانات السماوية الثلاث، لأنها هي التي تربط المخلوق بالخالق، وما دامت هذه الأماكن هي التي تربط المخلوق بالخالق، فإن هُدِّمت يكون الناس على غيرِ ذِكْرٍ لربهم، وتفتنهم أسباب الدنيا، فهذه الأماكن هي التي تبقى أصول القيم في التدين».

أما أبو محمد المقدسي، أبرز منظري تيار السلفية الجهادية، وأستاذ «أبو مصعب الزرقاوي» مؤسس تنظيم القاعدة في العراق، فيفسرهما بشكل مختلف، إذ يذكر أن الباطل (كما يقول سيد قطب)… «متبجح لا يكف ولا يقف عن العدوان، إلا أن يدفع بمثل القوة التي يصول بها ويجول، ولا يكفي الحق أنه الحق ليوقف عدوان الباطل عليه، بل لا بد من قوة تحميه وتدفع عنه، وهي قاعدة كلية لا تتبدل ما دام الإنسان هو الإنسان، وقد عدد الله في الآيات أعظم المفاسد المترتبة على ترك الجهاد، فذكر فيها، فساد المعمورة ومن عليها، ولا شك أن أعظم فساد في الأرض، الإشراك بالله بصوره المتنوعة، سواء بإعلان التنديد له بدعوى أنه ثالث ثلاثة، أو بنسبة الصاحبة والولد إليه، كما يفعل اليهود والنصارى، أو بما نشاهده اليوم من تنحية شرع الله، وتسلط طواغيت الأرض بشرائعهم الشركية على رقاب العباد، ومنحهم لسلطة التشريع المطلقة لأنفسهم ولشركائهم المتفرقين، فما هذا وذاك إلا شيء من الفساد العظيم والمتشعب الذي ترتب على ترك الجهاد ومدافعة الكفار».

واضح الفرق الكبير بين التفسيرين، فالشيخ الشعرواي، عليه رحمة الله، ينظر إلى الجانب الإنساني والأخلاقي اللطيف من الآيتين، مركزاً على القيم التي تمثلها أماكن العبادة، أيّاً كان دين أصحابها، أما المقدسي فيذهب بالآيتين إلى الجانب العنيف المتفق مع فكر السلفية الجهادية المتطرف، الذي يتبنى الجهاد المسلح منهجاً للتغيير، ويكفّر الحكومات والأفراد والمجتمع كله، ويستشهد على ذلك بأفكار سيد قطب، قائد تيار التطرف والتشدد في جماعة «الإخوان المسلمين»، التي خرجت منها كل جماعات الإسلام السياسي، على اختلاف مسمياتها، وأماكن نشأتها، وأسماء قياداتها، وهو فكر يؤمن بجاهلية المجتمع الذي نعيش فيه، أخذاً بقول سيد قطب «إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو المجتمع المسلم»، كما جاء في كتابه «في ظلال القرآن»، الذي يعتبر وكتاب «معالم في الطريق»، دستور الجماعات الإسلامية المتطرفة.

هذا الفكر المتطرف الشاذ هو الذي يعاني العالم منه اليوم، ويتم إزهاق أرواح الكثيرين بسببه، دون تفريق بين مسلم وغير مسلم، بدليل أن تفجير الكنيستين في مصر، لم يذهب ضحيته أقباط فقط، وإنما قُتل فيه مسلمون أيضاً.

هذا الفكر هو الذي يجب أن نحاربه، ولا يكفي أن ننشط عندما تحدث تفجيرات مثل هذه، ثم نعود إلى استئناف حياتنا وننسى، لأن المعركة مع الفكر المتطرف طويلة وشرسة، شراسة المتطرفين والإرهابيين القتلة أنفسهم، لقد هُدِّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد بسبب هذا الفكر، الذي وجد له مناخاً في عالمنا، وسوف يهدم المزيد ما لم نقضِ على هذا المناخ ونجتثه من جذوره.

المصدر: البيان