عند المشي فيه، ثمة ما يدعوك للخشوع والتأمل؛ حيث سكون الوادي ورهبته وصمت الجبال والصخور الشاهقة، حتى يصعب عليك تخيل أن هناك مكانا بهذا المزيج المدهش من الجمال والغموض في منطقة الشرق الأوسط.
تنحدر، نحو قعر الوادي، الذي زاره الشاعر الفرنسي لامارتين وقال عنه: «لم يترك أي مشهد في نفسي انطباعا مماثلا، هذا المكان يجمع جمال الخطوط وعظمة القمم ودقة التفاصيل وتنوع الألوان».
إنه وادي قاديشا، أحد أعمق وديان لبنان، ويقع على بعد 121 كلم شمالي العاصمة اللبنانية بيروت، فيما المعابد المنحوتة في قلب الصخر النابض بحكايات الأقدمين، تبدو كأنها معلقة بين الأرض والسماء.
يقول خادم رعية الوادي الخوري حبيب صعب في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «الوادي ينقسم إلى مقلبين، الأول هو وادي قاديشا، ويمتد حتى دير مار أنطونيوس قزحيا، نزولا حتى الفراديس. والثاني، هو وادي قنوبين، ويمتد من مدافن البطاركة الموارنة، صعودا حتى الكرسي البطريركي الجديد في الديمان».
ويضيف: «تكثر في وادي قنوبين الكهوف والمغاور، وكذلك المزارات ومحابس الرهبان والكنائس والأديرة».
أما تسمية «قاديشا» فتعود إلى الجذور السامية التي تعني «القداسة»، مما جعله الوادي «المقدس» لكونه رمزا من رموز الطائفة المارونية المسيحية. وكان وجهة اعتكاف للمسلمين أيضا، كما ذكر الرحالة الأندلسي ابن جبير عندما زاره في القرن الثاني عشر.
يرتفع وادي قاديشا عن البحر 1500 متر، فيما يبلغ عمقه نحو 500 متر، تجد وأنت تمشي فيه عبر الدروب الصخرية القاسية كل ألوان الجمال، بدءا من زرقة النهر الذي يجري في أعماق الوادي، ومرورا بخضرة الأشجار التي تكسو جباله، ووصولا إلى بياض الضباب والسحاب الذي يجعل من قاديشا لوحة أسطورية بالغة الجمال! هذا الوادي الساحر يختزن إرثا دينيا وثقافيا يعود إلى العصور الغابرة، قد يكون صعبا على القاصدين معرفة كيفية التجول في أرجائه دون دليل؛ لذا قام اتحاد بلديات قضاء بشري العام الماضي بنشر لوحات تدل على الكنائس والأديرة والصوامع والمغاور.
في أعماق هذا القفر الموحش المخضوضر، يسيل نهر قاديشا الذي ينبع من مغارة تقع عند أقدام «أرز الرب» التي تشرف عليها «القرنة السوداء»، أعلى قمم جبال لبنان.
يبدأ الوادي عند بلدة بشري، وهي مسقط رأس الشاعر اللبناني المبدع جبران خليل جبران، ويصب فيه عدد من الوديان الرافدة التي تجتمع مياهها فيه لتسيل باتجاه البحر، بعد أن يكون النهر قد عبر طرابلس وتحول فيها اسمه من نهر قاديشا إلى نهر «أبي علي».
وحظي الوادي باهتمام عالمي؛ حيث قامت منظمة اليونيسكو بإدراجه في لائحة التراث الإنساني العالمي عام 1998، وقامت بوضع صورته على غلاف عددها الصادر في أواخر 2014 وهي المرة الأولى التي يتصدر فيها غلاف المجلة موضوع يتعلق بلبنان.
واليوم تتوالى أعمال البحث والاستكشاف عن المغاور والمحابس في هذه المنطقة. ويستند متطوعو «رابطة قنوبين للرسالة والتراث» في بعض أعمال البحث، إلى الروايات الموروثة لأبناء الوادي والجوار، التي تشير إلى مواقع المعالم وخصوصيتها.
ففي 3 فبراير (شباط) 2014 وصل متطوعو الرابطة إلى موقع «مدفن القلاعي» بعد سعي امتد لسنتين، وهو معلق في الجرف الصخري شرق دير سيدة قنوبين، وواحد من المغاور والمحابس التي شهدت الحياة الروحية في جوار الدير المذكور.
وفي أواخر الشهر المذكور انكشف الموقع الذي يحتضن ثلاث مغاور ذات خصوصية متصلة بتراث الوادي البشري والعمراني، وهي مغارة «شير النحلة»، ومغارة «النحلة»، ومغارة «بركة بيت حبيب»، وقد حولها الإنسان بركة أو خزانا للري.
وإذ يشدد مسؤول الإعلام في الرابطة جورج عرب على أن الوصول إلى بعض المغاور المكتشفة كان صعبا جدا، يؤكد أن المرحلة التالية هي لإجراء الأبحاث العلمية لتحديد الحقبة التاريخية التي سكنها الإنسان، ولدراسة الحقبة الجيولوجية التي تشكلت فيها تلك المغاور.
ويشير الأب صعب إلى أن الأنظار تتجه اليوم نحو الكم الهائل من الاكتشافات لمغاور كانت مغمورة في الوادي، وهو مما ضاعف عدد الأماكن الأثرية والتراثية والتاريخية إلى أكثر من 50 مغارة، ومحبسة، ومكان تنسك.
وتضاف هذه الاكتشافات إلى لائحة المغاور المكتشفة في محيط الوادي، التي كان أبرزها مغارة «عاصي الحدث»، التي عثر فيها على جثث محفوظة طبيعيا، فضلا عن بقايا فخاريات وعملات قديمة، تعود إلى القرن الثالث عشر.
وانتقالا إلى المغاور الواقعة بين قنوبين والفراديس، نجد أن عددها ثلاث؛ أولها وأكبرها مغارة الغفران، البالغ علو فتحتها في التجويف الصخري الشاهق 16 مترا، بعرض أربعة أمتار، وفي داخلها ترسبات مائية متحجرة بأشكال رائعة متعددة الأحجام.
أما مغارة «الملاك» فتمتاز بترسبات مائية متحجرة بألوان زاهية، من الأزرق والأصفر والأخضر الداكن، فيما تستوقفك مغارة القربان، التي هي عبارة عن تجويف شاهق في شير صخري. حجارتها رملية، تتدرج أقسامها من الخارج إلى الداخل على شكل مذبح للصلاة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الوادي يأتي في طليعة مواقع السياحة الدينية في لبنان، ويقصده سنويا ما يزيد على 150 ألف سائح لبناني وعربي وغربي.
المصدر: بيروت: مازن مجوز – الشرق الأوسط