كاتب إماراتي
قرأنا صغاراً قصة غلام الراهب، تلك القصة الجميلة في المفاصلة بين الحق والباطل، كانت لدى الغلام مشكلة بسيطة في خوفه من اكتشاف المجتمع ذهابه لدى الراهب الذي أعطاه الحل بشكل بسيط: إذا سألك أهلك فقل حبسني الساحر، وإذا سألك الساحر فقل حبسني أهلي.. وكان الله غفوراً رحيماً!
وفي الأيام الجميلة كان بإمكانك إغلاق الـ«بليب» أو حتى الـ«كاتل» والـ«نوكيا»، ثم اختراع أي حجج أو كذبات تحلو لك: «التاير بنجر»!، «يتني الزايدة الدودية»!، «وقفتني دورية»، «خطفني طبق طائر»، القصة الشهيرة لساندويتش الفلافل وغسيل المعدة! والكثير الكثير غيرها، مما يضمن لك إرضاء الطرف الآخر، والنوم قرير العين، كأي كذاب يحترم مهنته!
اليوم اختلفت الصورة، فيكفي أن تفكر بأن تقول لأحدهم: اسمحلي كنت مشغولاً لكي يصرخ في وجهك: توني شايفنك آخر ظهور في الـ«واتساب» قبل خمس دقائق.. تقوم بطلب إجازة مرضية، وتخرج للإجازة، وبعد عودتك إلى العمل تفاجأ برسالة إنذار من الشؤون الإدارية، مصحوبة بصورتك مطبوعة من موقعك على «فيس بوك» وأنت تحمل سمكتين بالقرب من جزيرة «حَبَلين»، وأنت تبتسم ببلاهة للمصور في تاريخ الإجازة نفسه.. تقسم لموظف البنك بأنك رجل أعمال كبير، وقادر على التعامل مع القرض الذي تطلبه من البنك، فيفاجئك الموظف المسؤول عن القرض بأن يدير هاتفه المتحرك باتجاهك وهو يقول لك إذن لماذا يعلق صديقك على صورتك في الـ«انستغرام» بقوله: رد الخمسمية اللي عليك!
باختصار حياتي وحياتك وحيواتنا (جمع تكسير) أصبحت كتباً مفتوحة.. تاريخ ميلادك.. أصدقاؤك.. أماكن وجودك.. أرقام هواتفك أفكارك! لم يعد هناك وجود لما يعرف بالمسافة الشخصية، وهي التي يعرفها الغربيون بالمسافة حول الشخص، والتي يحب ألا يتجاوزها أحد حول جسده (فيزيائياً) لكي لا يشعر بالضيق.. مسافتك الشخصية الفيزيائية أصبحت هي المسافة الإلكترونية نفسها، ولم تعد تبعد عن أي شخص نقرة فأرة!
حاولت كثيراً أن أعبث.. أغير الأرقام.. أشطب الموجودين.. أمنعهم.. أحجبهم.. أقوم بتغيير الحسابات.. لكن دائماً سيجد اللطفاء ثغرة في نظام خصوصيتك ينفذون منها.. لم يعد لديك من حل سوى أن تلبس وجه اللوح.. فإذا قال لك أحدهم: لكني رأيتك في الـ«واتساب» قبل خمس دقائق! قل له بلا تردد: وانته شو دخلك!
يقول أحد الظرفاء: قبل مدة، حين كنت تريد إخراج شخص ما من حياتك كان يكفي أن تغير رقم هاتفك.. اليوم تحتاج لإخراجه من «تويتر» و«انستغرام» و«فيس بوك» و«واتساب» و«ماسنجر» وثلاث أو أربع وسائل اتصال أخرى، وكأنك تقوم بمعاملة براءة ذمة في جهة حكومية!
صب..!
المصدر: الإمارات اليوم