صحفي وكاتب سعودي
عن 77 عامًا ودّع المفكر السوري النادر الطراز جورج طرابيشي عن هذه الفانية الأربعاء الماضي.
مفكر عميق الغور، شديد الحرص، دقيق البحث، وافر الهمة، يقرأ كتبًا من أجل تقرير فكرة معينة قد لا تستغرق من كتاب يقع في 44 صفحة إلا صفحتين.
بدأ الرجل مشواره الفكري ونشاطه العام منخرطًا في حزب البعث، ثم غادره وغادر معه بلاده سوريا، وهو الحلبي العتيق، لبيروت. وحين اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية القبيحة، غادر آخر عش له في بلاد الشام، واستقر بعاصمة الأنوار باريس بقية حياته، حتى غادر الفانية قبل أيام.
أزعم أن كل من قرأ بجد واجتهاد في تحولات العالم العربي، وجدل الهوية، والعلمانية والأصولية، وتكريس الهوية الوطنية بالضد من النزعات الدينية والطائفية، فلا بد له من استيعاب نص طرابيشي.
رغم وعورة المسائل التي كان يعاني معالجتها في أبحاثه وترجماته، لكنه تميز بطراوة الأسلوب وإشراق الجملة، ونصاعة البيان، ما يعني أنه كان هاضمًا ومسيطرًا على شبكته الفكرية، يغذي ذلك عُدة لغوية متينة، وثراء قاموسي في المفردات والتراكيب. لا عجب، فهو صاحب الشهادة الجامعية في اللغة العربية من جامعة دمشق، أيام عزها العربي.
أبرز فصول جورج طرابيشي في مشواره النقدي ومنجزه العلمي كانت في سلسلة ترجماته الراقية لأعمال سيغموند فرويد، أبرز علماء النفس المتأخرين، للعربية، وقد اعتمد هو شخصيًا على فرويد في تأملاته ونقداته في الرواية العربية.
المحطة الثانية، الباهرة، كانت في تتبعه لعمل العظيم الآخر، الراحل المغربي الكبير محمد عابد الجابري، صاحب سلسلة «نقد العقل العربي»، إذ أنجز طرابيشي خمسة مجلدات لتقصي النص الجابري، حول التراث الإسلامي، ومدارسه ومراحله، وهو عمل جبار، مؤسس لعقل جديد.
آخر مقال كتبه الراحل طرابيشي عن أبرز محطات حياته، كان تلويحة الوداع الأخيرة، بعدما ترمدت أحلام الفتى الحلبي، على لهب النيران السورية.
قال في مقاله الوداعي الحزين متحدثًا عن تفاؤله المقتول بالربيع العربي، إنه كان يأمل «أن تكون فرحتي بذلك الربيع هي الرفيق الدائم لما تبقى لي من العمر».
يضيف بحزن: «لكن، وكما أثبت التطور اللاحق للأحداث فالربيع العربي لم يفتح من أبواب أخرى غير أبواب الجحيم والردّة».
ختم مقاله، وحياته، بهذه الجملة الروحية: «يبقى أن أختم فأقول إن شللي عن الكتابة، أنا الذي لم أفعل شيئًا آخر في حياتي سوى أن أكتب، هو بمثابة موت».
في هذا الزمن الهش، يجب قراءة طرابيشي لتعميق الفهم أكثر، حول الماضي والحاضر.
وداعًا أيها الفتى الحلبي.
المصدر: جريدة الشرق الوسط