كاتب سعودي
أحياناً يستطيع شخص متنفذ أو دائرة حكومية أو متنطع في الاحتساب أن يشعرك بالغربة وأنت في وطنك وبين أهلك. هذا النوع من الإحساس بالغربة محبط وخانق لدرجة قد تجرفك إلى اللؤم العاطفي وتجعل الشيطان يجرك إلى السب واللعن، قبل أن تثوب إلى رشدك وتستعيذ بالله من نزغات الشياطين.
هذا الشعور اللئيم ما يلبث أن يزول في اليوم نفسه أو اليوم التالي، بعد أن يغرب ذلك المسؤول أو المتنطع أو الدائرة الحكومية عن ذاكرتك وتعود إلى الوجوه والأماكن المألوفة لك والغالية عليك.
ليس في الإحساس بهذا النوع من الاغتراب جفاء حقيقي للوطن وساكنيه، لكنه اغتراب سلبي عاطفي مؤقت، ما تلبث الإيجابيات أن تطفئه.
المسألة تختلف إذا واجهت هذا التنغيص في بلاد أخرى، ليست هي بلادك وليس أهلها أهلك.
في هذه الحالة تتراكم كل منغصة جديدة فوق أخرى، لأنك في الأصل تشعر بالغربة هناك قبل أن تزيدك المنغصات شعوراً أكثر بالاغتراب.
الوطن بمعناه الاجتماعي والتربوي هو ما تستوطنه من الأرض، حدوداً ولغة وتاريخاً وعادات وأعرافا، وهو التراب الذي خلقت منه وتعود إليه إلى جانب أهلك الأولين. الفرق كبير بين أن تعيش معززاً مكرماً في وطنك الأصلي أو أن تعيش أيضاً معززاً مكرما ً في بلاد غير بلادك، وهذا الفرق هو ما يجعلك تتفانى في حب الوطن.
يتضاءل هذا الفرق حين تحصل على قدر من التعزيز والإكرام في بلاد الغربة أكبر مما تحصل عليه في وطنك الأصلي.
مع ذلك يبقى فيك شيء من حب الوطن، يكثر أو يقل حسب الفارق في موازين العدالة الاجتماعية والاستئناس الاجتماعي.
المصائب في الأوطان تحصل عندما تصبح طاردة لأهلها، وخصوصاً للنابهين منهم، أي عندما تصبح نتيجة المعادلة صفريةً عند المقارنة بين الوطن الأصل والوطن المكتسب.
أما أن هناك معادلة نتيجتها بالسالب تماماً لصالح وطن مكتسب على حساب الوطن الأصل، فذلك أمر نادر الحدوث، إن حدث من الأساس.
عندما يحصل الإنسان في وطن الاغتراب على قدر أكبر من الاستقرار المعيشي والمعنوي، يبقى بداخله الحنين الجنيني إلى حيث بدأ وحبا ومشى وركض، وتبقى في ذاكرته رائحة الأرض التي تخلق منها وشروق الشمس التي رآها لأول مرة، حتى وإن غربت عن ناظريه لاحقاً لظروف اضطرارية.
في هذا المقام يقول خير الدين الزركلي:
العين منذ فراقها الوطنا لا ساكناً ألفت ولا سكناً
الوطن هو الأرض التي تشعر فيما عداها أنك غريب، ولكنه أيضاً ما تطمئن فيه وتحن إليه إذا غبت عنه، والأمران ليسا نقيضين، لكنهما مختلفان، واللاصق بينهما هو ما يحصل عليه الإنسان من الاحتضان وتقاسم الموجود، حتى ولو كان شق تمرة.
اللهم زدنا عدالة اجتماعية واستئناساً تعايشياً حتى نتفانى في حب الوطن وحب كل ما فيه.
المصدر: صحيفة الجزيرة