كاتب إماراتي
حليمة أم لخمسة أطفال، تخرج كل صباح مع جاراتها في «تشاد» بحثاً عن شيء يسددن به رمق أطفالهن، وبسبب المجاعة التي تعصف بكثير من الدول الإفريقية، تقوم حليمة ومن معها بالبحث عن بيوت النمل واستخراج الحبوب التي خزّنها على مدار أشهر، ثم يطبخنها ويطعمنها لأطفالهن، وهذه كما تقول حليمة، هي الطريقة الوحيدة الباقية للحصول على طعام.
وإذا شاهد أحدكم تقريراً على التلفاز عن المجاعة في إفريقيا فإنه سيرى بأن الذباب يجتمع على أعين الأطفال، وذلك لأن دموع الأطفال هي مورد الماء الوحيد المتوفر للذباب! نعم، لقد وصلت المجاعة إلى هذا المستوى السحيق والمرعب، ففي كل عام يموت قرابة 7.6 ملايين طفل من الجوع حول العالم، وهناك قرابة مليار شخص يعانون من الجوع، ومليار آخرون يعانون من الفقر المدقع.
قرأتُ هذه الأرقام لأحد الأصدقاء فقال لي: «وما شأني أنا بحليمة وأطفالها؟» فعلاً قد لا نكون مسؤولين عن مشكلات الجوع والفقر في العالم، ولكننا بالتأكيد مسؤولون عن الجوع الروحي الذي ينهش في داخل كثير منا. فعندما يعلم أحدنا أن خمسة وعشرين سنتاً أمريكياً، أي ما يعادل درهماً إماراتياً واحداً، تكفي لسد رمق طفل وإبقائه على قيد الحياة ليوم آخر، ثم يُفضّل أن يحتفظ بذلك الدرهم في سيارته على أن يرميه في صندوق التبرعات، فإن ذلك يعد أبشع أنواع الفقر الإنساني؛ الفقر من المشاعر ومن الإنسانية ومن المسؤولية.
هناك مؤسسات عالمية كثيرة تسعى لإسعاد البشرية والتخفيف من أزماتها، كالبنك الدولي والأمم المتحدة ومؤسسة «جيتس» التابعة لبيل جيتس مؤسس شركة مايكروسوفت، وهذه الأخيرة أكثر عظمة من غيرها. فلقد تفرّغ جيتس وزوجته منذ عدة سنوات للتخفيف من معاناة البشرية، فقامت مؤسسته، التي يشترك معه فيها المليادير العالمي (وارن بافِت)، بصرف أكثر من خمسة وعشرين مليار دولار منذ عام 1994 وحتى اليوم على مشروعات تنموية حول العالم، كمحاربة الأوبئة مثل الإيدز والملاريا، وكالاستثمار في التنمية الزراعية في الدول الفقيرة، وكالمساهمة في الأبحاث التي تسعى لابتكار عقارات طبية تساهم في التخفيف من آلام الفقراء في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وكإنشاء المؤسسات التعليمية في القرى والمناطق النائية. لم يقم بِل جيتس ببناء كنسية، ولم يموّل حملات للدعوة إلى دينه، فالأسرة التي يعاني أفرادها من خطر الموت جوعاً في أي لحظة، تحتاج إلى الغذاء والدواء لتصبح قادرة على دخول دور العبادة، والإنصات إلى العِظات الدينية.
قال لي أحد كبار رجال الأعمال في الإمارات إنه توقف عن بناء المساجد في إفريقيا وآسيا، واكتفى ببنائها في داخل الدولة، أما هناك فإنه يتبرع لبناء المستشفيات، والمدارس، والمكتبات، ويموّل برامج خاصة بإنشاء بنى تحتية للزراعة ثم مساعدة سكّان القرى بمبلغ مالي بسيط لبدء مشروع زراعي صغير. وعندما سألته عن السبب قال لي: «كم مرة جمع النبي – صلى الله عليه وسلم – زكاة المسلمين وصدقاتهم لبناء المساجد؟».
كُلّنا في حاجة إلى العطاء؛ فالفقير في حاجة إلى سدّ حاجته المادية، والغني في حاجة لملء فراغه الروحي، الذي لا يُشبعه الأخذ بقدر ما يشبعه البذل. يحتاج الأغنياء أن يجدوا أشياء لا تُشترى بأي ثمن ليشعروا بقيمة الحياة؛ والبذلُ هو الشيء الوحيد الذي لا يمكننا أن نضع عليه بطاقة أسعار. إن العطاء كالإيمان، يجرّدنا من كل الغرائز البشرية البشعة، ويقرّبنا من منازل الملائكة، ويرتقي بنا إلى الدرجات السماوية.
وأجمل عطاء هو الذي يأتي عند بلوغ الحاجة قمّتها، وأعني حاجة المُعطي الذي يبلغ ذورة إنسانيته عندما يُؤْثِر غيره على نفسه وهو غير مضطر لذلك، وخصوصاً عندما يكون المتلقي غريباً عنه.
هذه ليست موعظة حول أهمية الصدقات، ولكنها دعوة لإنهاء حالة الجمود الإنساني التي يعيشها كثير منا كلما مرّوا بجانب صناديق التبرعات في المحلات التجارية دون أن يتحرك وازع الرحمة في داخلهم ليخروجوا درهماً واحداً، ليطعموا بها طفلاً واحداً فقط، ودون مناسبة، فالرحمة لا تحتاج إلى مناسبات. إن العطاء الذي يأتي دون مناسبة، ويصل قبل السؤال يُشبه المطر الذي يُنبِتُ الأرض دون مقابل، ويرسم الفرحة على وجوه الأطفال.
إن من يُعطي أفضل ما عنده يحصل على أفضل ما عند البشر؛ يحصل على الحب والسعادة.
يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا تستحِ من إعطاء القليل، فالحرمان أقل منه».
نشرت هذه المادة في صحيفة الشرق المطبوعة العدد رقم (١١٨) صفحة (١٦) بتاريخ (٣١-٠٣-٢٠١٢)