كاتب سعودي
منشور يحمل صورة أحد كبار المجرمين مختوم بعبارة «مطلوب». خبر صحافي من مصدر أمني يحوي تصميماً يضم عشرات الإرهابيين بعنوان: «مطلوبون». بيان حكومي يجرم تنظيماً مسلحاً كاملاً ويحذر من الانتماء إليه ويطلب من المواطنين إبلاغ السلطات بأماكن وتحركات أعضائه!
كل هذا من تفاصيل ومفردات زماننا. كل هذا من قبيل العادي في يومياتنا، لكن الغريب علينا والخارج من حسابات خبراتنا أن تكون هناك دولة كاملة (حكومة وشعباً) مطلوبة للمجتمع الدولي، أو most wanted كما جرت عادة البيانات الأمنية!
وعندما تكون الدولة «المطلوبة» بكاملها في مرمى تجريم باقي دول العالم، فلا بد أن تكون موجودة فعلاً على أرض الواقع وذات إحداثيات معروفة على الخريطة العالمية، بعكس المجرمين الأفراد أو أعضاء الجماعات المحظورة الذين يُطلبون لأنهم في الأصل متوارون عن الأنظار ومتخفون عن عيون العدالة!
سر غريب وغامض وحسابات غير مفهومة، تجعل هؤلاء الخارجين عن القانون الدولي والتشريعات السماوية يستعرضون بقوتهم (اللاشيء في الموازين العسكرية) في منطقة مكشوفة من العالم، من غير أن يسقط عليهم صاروخ عابر للصحاري (الصغيرة) أو تصيبهم قنبلة موجهة من مكان ما من العالم!
في تقديري أن القضاء على «داعش» عملية معقدة، تتوزع مسؤوليتها بين خمسة أطراف: الطرف الأول المكون السني في الدولة العراقية، والطرف الثاني الإقليم الكردي المستقل وغير المستقل، والطرف الثالث الحكومة العراقية والطرف الرابع القوى الإقليمية الموجودة في المنطقة (السعودية وتركيا وإيران)، والطرف الخامس القوى العالمية الغربية.
فبالنسبة إلى السنة العراقيين، من غير المعقول والمقبول أن يخرج بين الحين والآخر قادة الحراك السني الموجه ضد المالكي (علي الحاتم أحدهم) ويقولون إن حراكهم بريء من «داعش»، وإنهم مستمرون في الثورة حتى الاستيلاء على بغداد! هذا القول يحمل مخالفتين عظيمتين: الأولى أنه غير صحيح ويحمل من الكذب والتدليس الكثير، فكل المناطق التي تسمى بالمحررة يحكمها فعلياً «داعش»، ويبسط عليها سيطرته بالكامل، ولا يمكن قبول فكرة أن الثوار العراقيين السنة الذي يلتفون بالعلم العراقي هم الذين يديرون الأمور في مناطقهم المحررة.
والمخالفة الثانية أنهم – وبفرض سيطرتهم على بعض الأراضي – مستمرون في انتفاضتهم ضد حكومة المالكي، في الوقت الذي كان عليهم أن يكونوا عراقيين أكثر من المالكي نفسه ويعلنون توقف الثورة حتى ينتهي أمر «داعش»!
الطرف الثاني في هذه المعادلة يتمثل في الإقليم الكردي، الذي يقدم رجلاً ويؤخرها في مسألة إعلان الاستقلال عن العراق والانضمام إلى الأمم المتحدة كدولة عرقية (وليست عراقية) جديدة. مسعود بارازاني يرى أن وجود «داعش» بهذا الشكل في العراق نعمة ربانية، فهو يمهد الطريق أمام الأكراد لإقامة دولتهم المستقلة في شمال العراق، لكنه في الوقت نفسه متردد حيال ذلك لأمرين مهمين، الأول أن الإقليم الكردي العراقي لا يمثل سوى ربع الدولة الكردية الحلم التي تكتمل في مخيلة الأكراد، والثاني أن المجتمع الدولي برمته (وإيران وتركيا على وجه الخصوص) يرفض تماماً تقسيم العراق في هذه الظروف، إذا ما استثنينا تأييد إسرائيل غير المستغرب لاستقلال الأكراد.
الطرف الثالث في القضية الحكومة العراقية، ولكي أكون أكثر تحديداً المالكي وفريقه! العالم أجمع والعراقيون على وجه الخصوص صاروا يعرفون أن المالكي يدير الأزمة الداعشية بطريقة تضمن مصالحه الخاصة فقط. في البدء تساهل مع التكوينات المتشددة وصار يلعب معها «لعبة الاستنزاف» فقط ليثبت للعراقيين أن وجوده مرتبط بالحرب على الإرهاب، ثم عندما تحول الداعشيون إلى خطر حقيقي على مستقبل العراق، راح يساوم وجوده بوجود العراق بالكلية.
الطرف الرابع في مسألة «داعش» القوى الإقليمية الموجودة في المنطقة، وأقصد بها السعودية وتركيا وإيران. العلاقات المتوترة بين هذه الدول الثلاث جعلت التنظيم الداعشي يتمدد في غياب التنسيق الأمني والمظلة المشتركة. وفي ظني أن الخلاف في مكان ما وزمن ما وحول قضية ما، لا يجب أن يسحب على كل القضايا المشتركة بين هذه الدول. السياسة في الأصل وعاء براجماتي، يتسع لقضايا الخلاف وقضايا الاتفاق. كل الدول الثلاث تعد «داعش» خطراً إقليمياً، فلماذا لا تتكاتف الجهود في القضايا المشتركة، وتؤجل النقاشات في القضايا المختلف عليها. هذا من جانب، ومن جانب آخر يبدو لي أن التعامل مع الحكومة العراقية في مواجهة خطر «داعش»، يجب أن لا يرتبط أبداً بمن هو موجود على رأس القيادة العراقية. على تركيا والسعودية أن تتعامل مع الحكومة العراقية كجسم مصمت، بصرف النظر عمن يقودها، حتى القضاء على «داعش».
الطرف الخامس في القضية الدول الغربية وعلى رأسها أميركا. وفي هذا أقول إن جل مصائبنا في هذه المنطقة أننا دائماً نضع أنفسنا أمام خيارين بالنسبة لأميركا: لا نريد أميركا السيئة أن تتدخل في قضايانا، ونريد أميركا الجيدة أن تأتي لتحل قضايانا! وهذا الأمر أصاب الأميركيين أنفسهم بـ “السكيزوفرينيا”!
«داعش» الآن لم يعد «داعش»، هو الآن دولة الخلافة الإسلامية، والتي – للمفارقة – لا تريد أي اعتراف دولي بوجودها، لأن ذلك يجرح في شرعيتها وطهريتها السماوية. هو الآن موجود على أرض الواقع، لكن من السهولة بمكان القضاء عليه في حال قرر ذلك أحد الأطراف الخمسة. جاء «داعش» بخطبة جمعة سوداء، وسيذهب بصلاة بيضاء لمسكين عراقي، المهم أن يقرر أحد الأطراف الخمسة ذلك!
المصدر: الحياة