ناصر الظاهري
ناصر الظاهري
كاتب إماراتي

عجائزي الطيبات مثل وردة -2

آراء

متعة السفر مع العجائز تكتشفها بعد انقضاء السفر وتوديعهن، عبر حديثهن المتكرر عنه كلما التقيت بهن أو بإحداهن، أول هذه السفرات كانت قبل قرابة الأربعين عاماً، حينما حجّجت عجائزي مرتين، أيامها كان الحج مختلفاً، والمشقة أكبر، والمجاهدة أعظم، والاهتمام الصحي، والظروف المعيشية أقل، لا فنادق فاخرة، ولا رحلات منتظمة، ولا مطارات بهذا الاتساع والخدمات مثل اليوم، انضممت أنا وعجائزي الست، الوالدة والخالة والجارة، وتلك الأم البديلة التي أرضعتك وأشبعتك، وعجوز تقرب للأب، وأوصاك بها خيراً، وعجوز حلفت أنها ألقمتني من صدرها حينما كنت أزغّ؛ لأن أمي ذهبت للنخل، واستبطأتها، غير أن أمي لا تذكر هذه القصة بالذات، المهم سجلنا في إحدى حملات الحج برفقة كبيرة من الأهل والأصدقاء والمعارف، هذه الرفقة من الشواب والعجائز تجد فيها الفَرِح والمتجهم، الكريم والبخيل، السمحة والحنّانة، العفوية والمنّانة، وكعادة جماعتنا في حجهم أو تمتعهم، في جدهم أو هزلهم، يصبغون الأشياء بصبغتهم وطابعهم، ولا تخلو من بسمة وضحكة آخر الليل، فهم يتنازعون على أقل القليل، ويحلفون بالطلاق في الحج، و«يرفجون» بحياة الغالين في صحن المسجد النبوي، لا تمضي الأمور دون تعليق مضحك منهم، فالرز الذي يقدمه مقاول الحج، حلف واحد منهم أنه مثل «عيش الأمير» في الخمسينيات، أما النساء فيصفنه بأنه عيش «كرّدَه»، وأنه مثل «نفيعة البقر»، ومرة أراد مقاول الحج المسكين أن يحسن اليهم، ويقدم لهم فطوراً على الطريقة الحجازية «فول وشكشوكة وفاصوليا ومربى وزبد وزيتون»، فأقسم الرجال الملتحون أن يورّوا «الضو» في نصف الحوش، إن كان الريوق على هذا الحال، أما النسوان فشكوتهن منذ الفجر من «الحصوصة ومن السهج في المواعين»، وأن قهوتهن «سريب»، وأكلهن «محوحي»، أما الحنّانة المنّانة منهن، ففنجانها في صرة وقايتها، واللقمة تكون قريبة من الأنف ثم الفم، ولا تقتصر الشكوى على الأكل، بل هم ضجرون من الحشود، ومن مزاحمة الأفارقة الأقوياء، في الطواف والسعي، يتململون إذا ما طالت قراءة الإمام، يتشاجرون إذا ما احتك بهم حاج غريب، وجاءت يده مصادفة قريبة من «الكمر» الذي يزنر به الخصر، وفيه «غوازيه»، في حين العجائز تظل الواحدة تطالع الأخرى وفي فمهن ماء، ومرات كثيرة تفلت منهن دعوات ومسبات تأكل من حسناتهن.

ومن بين الرحلات مع عجائزي المرحات غير رحلات الحج والعمرة، رحلة كانت إلى المحيط البعيد، توقفنا في لندن، وأخذن راحتهن في الطبخ والنفخ وعمل القهوة و«الزوارات» التي تصلهن من المعارف من حريم الدار، إلا «مقفلة وإلا حرّارة وإلا غنّجة»؛ لأن لندن مربط خيلنا، بعدها تابعنا السفر إلى واشنطن، أثناء تلك الرحلة لم تأخذ شركة الطيران البريطانية رأيهن في المقبلات المقدمة قبل وجبة العشاء في الجو، فجلبت لهن «سومون فيميه» أو سمك مدخن فيه لمعة برتقالية غير مستحبة، و«كافيار»، مثل «ذرق الصفاصيف»، كما وصفنه، وحين جئت أتفقدهن، وجدتهن متلثمات وهن يناظرن لتلك الصحون، ومضارب دهن العود في أيديهن.

وحين وصلنا إلى واشنطن، أردت أن يرين البيت الأبيض الذي يسمعن به من الراديو، ونشرات أخبار التلفزيون، ولا يعرفن شكله، وبعد الحواطة البسيطة، بدأ الملل يتسرب إليهن من أولها، وبدأن يتشكين من ركبهن، ووجع المشي الذي بلا فائدة، ففضلن الجلوس والراحة تحت ظل الأشجار في الحديقة المجاورة، معطيات البيت الأبيض ظهورهن مع فناجين من قهوة الدار و«سحه مدلوجة»، وصقعة الواحدة منهن ترنّ في تلك الحديقة.

المصدر: الاتحاد